العرب وثقافة الاستهلاك

24 اغسطس 2015
+ الخط -
يُعتبر الإقبال على الاستهلاك علامة واسمة للمجتمع البشري عموما، وللعرب خصوصاً في منعطف الألفيّة الثالثة، فما شهده اقتصاد السّوق من تطوّر، وما عرفته تقنيات التّسويق من تنوّع وازدهار، ساهم في فتح شهيّة المستهلكين، ليتجاوزوا خطّ شراء ما هو أساسي من الحاجيات إلى الولع بشراء ما هو كماليّ، فانتشرت بين النّاس ثقافة الاستهلاك التي يبحث هواتها عن الحضور الجمالي الجذّاب، وأسباب الوجاهة الاجتماعيّة والأناقة المظهريّة، ومواكبة آخر ما صدر من أشكال الموضة وتقليعات الشّعر، وأنواع الدّيكور المنزلي أو المكتبي. فتنافس الرّجال والنساء، على السّواء، في طلب الترف شوقاً إلى التميّز، وفي الإسراف توقاً إلى التفرّد، وفي التزيّن خروجاً عن الابتذال، وسعياً إلى لفت الانتباه. ولم يقف العرب، في عصرنا، عند إدمان الاستهلاك في مجال بعينه، بل هم مستهلكون بامتياز في الغذاء كما في الدّواء، وفي اللّباس كما في التّقانة، وفي شراء الهواتف الذكيّة كما في اقتناء أدوات الزّينة والتّجميل. لذلك، لا عجب أن ترى أحدهم يملك أكثر من سيّارة، أو يقتني أكثر من نظّارة، أو يضع على مائدته ما لذّ وطاب من أطباق متنوّعة وغلال كثيرة ومشروبات عديدة في وجبة واحدة. ولا عجب أن تتهافت الشّركات متعدّدة الجنسيّات على أرض العرب، تريد بعث الفضاءات التجاريّة الكبرى، وبثّ الحملات الإشهاريّة المكلفة الموجّهة إلى المستهلك العربي لعلم بارونات الإنتاج في الشّرق والغرب بلهفته على التبضّع، وبرغبة الميسورين وغير الميسورين في بذل المال من أجل الترفّه والتمتّع بملذّات الدّنيا، حتّى أصبح الكماليّ أساسيّا، والترفيّ ضروريّا في ثقافة كثيرين.
وللإفراط في السّلوك الاستهلاكي عدّة أسباب، لعلّ أهمّها تطوّر تقنيات الإشهار، ومساهمة وسائل الإعلام في ترويج المنتَج الجديد، وإغراء المتلقّي باقتنائه. وتأكّد ذلك في عصر انتشار الوسائط الرقميّة، وصعود الصّورة باعتبارها وسيطاً إشهاريّا معبّراً، عابراً للزّمان والمكان، فترى الصّورة الجميلة للمنتَج تتخطّف الأبصار، وتهزّ الوجدان، وتأخذ الكبار والصّغار على السّواء. يُضاف إلى ذلك شيوع رأيٍ، يميل إلى تقويم الإنسان، وفق مظهره الخارجيّ، ما دفع كثيرين إلى التفنّن في اللباس والزّينة، تعبيرا عن الذّات من ناحية، وشوقاً إلى لفت الانتباه من ناحية أخرى، والانخراط ضمن نسق ما تسمّى ثقافة المظهر. كما أنّ السّلوك الاستهلاكي قد يتحوّل، أحياناً، إلى فعل مَرَضيّ قائم على الجمع والتبضّع قصد التّباهي، أو قصد سدّ نقص نفسيّ كامن في الذّات في مجالٍ ما.

وفي السيّاق نفسه، يرى بعضهم أنّ استهلاكه البضاعة الوافدة من الغرب، مثلاً، من علامات تقدّمه، ومواكبته الحضارة، فيتمّ اختزال الانتماء إلى عصر الحداثة في تلقّف آخر تقليعة شعر ظهرت في روما، ويتمّ اختصار التقدّم في شراء آخر قارورة عطر ظهرت في محلّ للعطور في لندن، ويتمّ حصر الحضارة في استخدام ربطة عنق باريسيّة، أو معجون حلاقة مستورد. ويندرج الفعل الاستهلاكي ههنا في إطار ما يسمّيه ابن خلدون ولع المغلوب بتقليد الغالب في السّلوك واللباس. من هنا، كان الاستهلاك ظاهرة معقّدة متعدّدة الأبعاد، فهو حالة اجتماعيّة، اقتصاديّة ذات جذور نفسيّة وخلفيّات تجاريّة لا محالة.
والحقيقة أنّ منع الاستهلاك أمر محال في عصر تنافذت فيه الأمم، وتعدّدت فيه مسالك التّجارة برّا وجوّا وبحرا، وأصبحت فيه السّلع تدخل بيوتنا، وتدخل جيوبنا عبر شاشات التّلفزة والهاتف والحاسوب، حتّى أصبح ممكناً التبضّع عبر الشّبكة في إطار ما تُعرف بالتّجارة الإلكترونيّة. لكن ترشيد الاستهلاك وتجنّب الإفراط فيه أمر ممكن، فبالإمكان، مثلاً، تخصيص المال الموجّه إلى شراء الكماليات للمساهمة في الجهد الوطني في مقاومة الفقر والأمّية والمجاعة والأمراض الخطيرة، والعمل على دعم ثقافة التّكافل، فما الفائدة في أن يبيت أحدهم في تخمة، وجاره يتضوّر جوعا أو يتوجّع ألماً.
ومقاومة الإدمان على الاستهلاك تكون بتوظيف قنوات تشكيل الوعي، من قبيل المؤسّسات الدّينية والتربويّة والثقافيّة والإعلاميّة، في نشر ثقافة حسن التدبير، بديلا عن ثقافة التّبذير، وتعزيز سلوك التّكافل بديلاً عن سلوك التّنافر، وإقناع النّاس بضرورة توظيف المال الزّائد على حاجاتهم في خدمة الصّالح العامّ، كأن يوظّفوه في مساعدة المنكوبين، والأخذ بيد ضعاف الحال والمقهورين، وفي دعم الكفاءات الشابّة، والعمل على إنقاذ أصحاب الشّهادات العليا من براثن البطالة. فتتحوّل بذلك الرّغبة في النّهم إلى رغبة في التقدّم، واللهفة على الاستهلاك إلى لهفة على البناء والتطوير. ومعلوم أنّ للأسرة دوراً مركزيّا في تربية الأبناء على الاقتصاد، وحسن التصرّف في المال، وتجنّب التّهافت على المظاهر، والاكتفاء بالضّروريّ بديلا عن الاستغراق في ما هو كمالي، فالتّربية في الصّغر كالنّقش على الحجر.. ومن شبّ على شيء شاب عليه.
(كاتب تونسي)
دلالات
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.