10 نوفمبر 2024
الدبلوماسية الرئاسية.. هل من ضرورة؟
(1)
المفاضلة بين دبلوماسية تقليدية ودبلوماسية متجدّدة هي مثل المفاضلة المستحيلة بين أمسٍ مضى ويومٍ محضور، أو بين واقعٍ مرئي وحُلمٍ مستخف، ذلك أن حيوية التواصل بين الاثنين تأخذك حتماً إلى أفق المستقبل، وإلى غدٍ محتشدٍ برؤىً تقبع في غموض الغيب. هنا لا مفاضلة بين ضدين، بل مواءمة بين متكاملين. ثمّة كيانٌ واحدٌ يخضع للتحوّل والتغيير والتبدّل، لا كيانان يتصارعان ويتنافران، بل هما في حال تلاقحٍ ديناميكي، يتولّد عنهما قمرٌ وضّاح، يخرج من غسق الليل وظلمته، يرسل ضياءً ساطعاً جديدا .
(2)
ليس في الأمر غموض الشعر، ولا سفسطة الفلسفة، إنما الحديث هنا لا يخرج عن طبيعة الأشياء، في تطورها وفي تحوّلاتها وتبدلاتها. من يسمع هذه الأيام عن تطورٍ يقع في أحوال المهنة الدبلوماسية يرَ أن المتابع العادي قد لا يفطن إلى مقاصد تعبير "الدبلوماسية الرئاسية"، فكأنه تعبيرٌ يجافي الدبلوماسية التقليدية التي يعرفها الناس، وعاش معظم الجيل الحالي توجهاتها خلال ما عرف بحقبة "الحرب الباردة". الدبلوماسية التي يعرفها الناس قبل أن يعرفها ممارسوها هي فن التواصل بين المجتمعات البشرية. ولعلي أوجزها بلغة أيامنا هذه، فأقول إنها فن التواصل بين الأمم والحكومات. تتجاوز الدبلوماسية في عمومها أهل المهنة، وذلك طبيعي،
إذ الدبلوماسية أسلوب وسلوك، فهي في السياسة مثلما هي في الاقتصاد، وهي في الطب والهندسة مثلما هي في الثقافة والرياضة، وسائر ما ابتدع الإنسان من مهن وفنون وعلوم.
(3)
تنزع فطرة الانسان السويّ عن التصارع والاحتراب، وتجنح نحو السلم والاستقرار. لذا يقول لنا التاريخ القريب إن البشرية استوعبت درس حربين وقعتا في القرن العشرين، وهما العالميتان، الأولى والثانية. وفي الطريق إلى تجنب موجبات الحرب، نشأت "عصبة الأمم"، وعلى الرغم من تواضع موجهاتها وأهدافها بعد انتهاء الحرب الأولى عام 1918، فقد حققت استقرارا عقدين. أما بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945، فقد استقامت إرادة الشعوب على التعاهد والتوافق على ما يعزّز التعاون بين المجتمعات، ويعزّز إمكانية تعايشها واستقرار أحوالها. إلى ذلك، توافقت حكومات العالم، أواسط أعوام القرن العشرين، على قيم تعيد اللحمة بين كيانات المجتمع الدولي، من أجل عالم تُحسِن البشرية جمعاء العيش فيه. لعبت الدبلوماسية أدواراً عظيمة في إرساء قواعد لتعاونٍ دولي ولتنسيقٍ لازم، يستهدف استدامة السلم والأمن الدوليين. من أحكم تلك الاتفاقيات والمواثيق الدولية تلك التي اتصلت بترتيب أساليب التواصل بين الشعوب والحكومات. خرجت تلكم الاتفاقيات من رحم اجتماعات حكماء العالم وقتذاك، بينها ميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وكذلك اتفاقيتا فيينا الدبلوماسية والقنصلية اللتين وضعتا الأسس للدبلوماسيتين، الثنائية والجماعية.
(4)
غير أن الأحوال جميعها قابلة لتطور ولتحديث ولمتغيرات. ليس الماضي ولا الحاضر بمستدام، بل هو خاضع لما قد يبتكر العقل البشري من اختراعاتٍ واختراقات علمية، ومن رؤى كالأحلام، تستشرف مستقبلاً حافلاً بتجريبٍ جديد.
وقد مهدت ثورة الاتصالات والمعلوماتية لثورة في "تحرير المعلومة"، فهي لم تحول العالم إلى محض قرية كونية فحسب، بل جعلته بيتاً واحداً، متعدّد الغرف والردهات والحدائق. تحولت طبيعة التواصل بين البشر تحوّلاً كبيراً بعد الاختراق الإلكتروني الذي أحدثته الشبكة العنكبوتية، في السياسة والاقتصاد، وفي العلوم والآداب، بل وفي مختلف أوجه الحياة. إلى ذلك، أعطت تلك الثورة الدبلوماسية نفساً جديدا، متصاعداً، يراه الدبلوماسيُّ الذي مارس الدبلوماسية
بأساليبها العتيقة، وتفاصيلها الدقيقة، مثل ضوابط البعثات الدبلوماسية، وترتيب أوراق اعتماد السفراء، وتبادل الرسائل، وابتعاث الرسل وجلسات التفاوض، أمراً مستحدثاً قد يتطلب تقويماً جديداً للعمل الدبلوماسي المهنيّ المعهود.
أتذكر ورقة أعددتها في وزارة الخارجية السودانية عام 2005، ولمّحت فيها إلى ضرورة التصالح مع واقع جديد للمهنة الدبلوماسية التقليدية، والتي توقعت أن يشار إليها بعد حين، بأنها "دبلوماسية سلفية" يتوجّب تجاوزها، كان بعض من ناقش الورقة في وزارة الخارجية السودانية وقتذاك لم يرَ في الدبلوماسية "سلفية" تُذكر. وأردت، في حقيقة الأمر، أن أقول إن الدبلوماسية التقليدية حان أوان تجديدها وعصرنتها، بعد ولوجها إلى عالم يمور بأساليب التواصل الإلكتروني والوسائط التي شاعت الآن، بأسرع وتيرة يمكن تصوّرها.
(5)
من كان يتصوّر أن رجلاً مثل دونالد ترامب، يرأس أكبر دولة، وقد تجاوز سنه السبعين عاما، يبرع في إدارة دولته عبر "تويتر"، بإطلاق الرسائل الإلكترونية والتصريحات المباشرة عن أكثر قضايا بلاده حساسية، متجاوزاً، ليس فقط مؤسسية العمل في وزارة الخارجية الأميركية، بل مؤسسية العمل في "البيت الأبيض" نفسه؟ أفاد الإعلام المتعصرن الرجل فائدة كبرى، بأن أتاح له الحضور اليومي المباشر، تحت عدسات آلات التصوير والهواتف الذكية، فيكون تعبيره أكثر دقةً وأحكم هدفا. ذلك ما قد يحدث إذا ما أحسن المتابعون قراءة لغة الجسد التي أجادها، وتمعّنوا في ملامحه، وفي حركة يديه، وفي تسارع خطواته، وفي ملبسه وربطة عنقه. من منكم (مثلاً) رأى الرجل يوماً مرتدياً "تي شيرت"، أو شاهده مسترخياً في مباذله؟
(6)
على أن مثل هذا المسلك الذي أرتآه ترامب، في إدارة أحوال الولايات المتحدة، يطرح تعقيداتٍ، بل تحديات عديدة، لعلّ من أوضح تلك التحديات أن الأسلوب الذي اتبعه تجاوز متطلبات المؤسسية، في دولة مثل الولايات المتحدة، يحكمها دستور راسخ، وممارسات رئاسية متجذرة، يرى كثيرون في الإعلام الأميركي أن ترامب قد فارقها بإصرارٍ مبين، وتعمّدٍ صادم. حيوية حضور الرئيس اليومي وتصريحاته الغرائبية، عبر وسائط التواصل الاجتماعي، جعلته عرضةً لانتقادٍ متصاعد من أجهزة الإعلام الأميركي، وصلت إلى حد التلاسن مع تلك الأجهزة والشطط في مخاصمتها.
يطرح أسلوب الرئيس ترامب في البيت الأبيض إشكالية غاية في الأهمية، تتصل بكيفية توافق تصريحاته المرسلة مع توجّهات مؤسسات الدولة، وخصوصا مع وزارة الدبلوماسية التي تعالج علاقات الولايات المتحدة الخارجية، وهي الجهة الرسمية التي يفترض أن تقدم الاستشارة الرصينة لمؤسسة الرئاسة في البيت الأبيض.
(7)
لعلّ تقديم سفراء بارزين في الأشهر الستة الأخيرة استقالاتٍ مسبّبة من وزارة الخارجية
الأميركية يعكس واحدا من وجوه أزمة ضعف التنسيق وشيوعِ تجاهلٍ، حمل استخفافاً برأي "مؤسسة الدبلوماسية". استقالت السفيرة روبيرتا جاكوبسون، في فبراير/ شباط 2018 من سفارتها في المكسيك، بسبب تناقض عملها الدبلوماسي مع توجهات الرئيس ترامب بشأن تشييد جدار تموّله المكسيك في الحدود المشتركة مع الولايات المتحدة. رأت السفيرة ما في تلك الدعوة من شطط، فتقدّمت باستقالتها احتراماً لمصداقية عملها في مهنة الدبلوماسية، ما يزيد عن الثلاثين عاما. لعلّ منكم من شاهد السيدة جاكوبسون تحدّث أمانبور، قبل أيام على قناة سي إن إن، لا بدّ قد لاحظ، عند تلك المرأة، رصانة في الحديث الدبلوماسي، لا تقارن بتهافت أقوال رئيسها.
استقال سفير الولايات المتحدة في جمهورية أستونيا، جيمس ميلفيل، احتجاجاً على تصريحات الرئيس ترامب الحادة، ضد دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، مستخفاً به ومتهماً إياه بالتقاعس في تحمل تبعات مواجهات متوقعة بين أستونيا وجارتها إلى الشرق: "روسيا الاتحادية". وفي كينيا، استقالت السفيرة الأميركية من نيروبي، وهي التي تشرف على ممثلية الولايات المتحدة في الصومال، احتجاجاً على تراجع السياسة الأميركية في اعتماد حقوق الإنسان أولوية في تلك المنطقة. قبلها بأشهرٍ قليلة، استقال السفير الأميركي في بنما لصعوبة القيام بمهمته، وعجزه عن التنسيق للعمل تحت دبلوماسية إدارة ترامب.
(8)
ثمّة إشكالية في أسلوب "الدبلوماسية الرئاسية" التي يتبعها الرئيس الأميركي، أفضت إلى حقيقةٍ لا لبس فيها، إذ إن اختصار إعلان المواقف السياسية بإطلاق التصريحات المختزلة، عبر "تويتر"، أو تبادل الأحاديث عبر الهواتف الذكية، يخصم مباشرة من الدبلوماسية المهنية، ومن رصانة أدائها المؤسسي، ويضعف، عموماً، دورها الاستشاري والتنفيذي، غير أن الصورة أكثر تعقيداً ممّا قد يبدو، إذ قد يشكل ذلك التنسيق (وتلك الممارسات) تجاوزاً لافتاً لما أقرّته الاتفاقيات الدبلوماسية والقنصلية التي اعتمدها المجتمع الدولي في فيينا، منذ ستينيات القرن الماضي، والتي عنيت بضبط الممارسات والأساليب الدبلوماسية. إزاء التطور الواقع في وسائل التواصل الاجتماعي، ونحن نوشك أن نطوي العقد الثاني في الألفية الثالثة، الأوجب أن تتم زيارة الاتفاقيتين، بغرض المواءمة بينهما وبين التطور الذي وقع في أساليب الاتصال والتواصل بين الشعوب والحكومات، وهو عصب العمل الدبلوماسي المعهود. على الاتفاقيات الدولية أن تعتمد المتغيرات التي استجدّت، وأن تعمل على استحداث معايرة لـ"الدبلوماسية الرئاسية" المباشرة التي يتبعها بعض رؤساء الدول في التواصل مع شعوبهم، ومع الأمم والبلدان الأخرى. إن "الدبلوماسية الرئاسية" إن اعتمدت من دون معايير وضوابط، فإنها مفضيةٌ إلى اضطرابٍ لن يفيد العلاقات الدولية في شيء، بل ربما أحدث خسارات وتناقضات وخصومات.
المفاضلة بين دبلوماسية تقليدية ودبلوماسية متجدّدة هي مثل المفاضلة المستحيلة بين أمسٍ مضى ويومٍ محضور، أو بين واقعٍ مرئي وحُلمٍ مستخف، ذلك أن حيوية التواصل بين الاثنين تأخذك حتماً إلى أفق المستقبل، وإلى غدٍ محتشدٍ برؤىً تقبع في غموض الغيب. هنا لا مفاضلة بين ضدين، بل مواءمة بين متكاملين. ثمّة كيانٌ واحدٌ يخضع للتحوّل والتغيير والتبدّل، لا كيانان يتصارعان ويتنافران، بل هما في حال تلاقحٍ ديناميكي، يتولّد عنهما قمرٌ وضّاح، يخرج من غسق الليل وظلمته، يرسل ضياءً ساطعاً جديدا .
(2)
ليس في الأمر غموض الشعر، ولا سفسطة الفلسفة، إنما الحديث هنا لا يخرج عن طبيعة الأشياء، في تطورها وفي تحوّلاتها وتبدلاتها. من يسمع هذه الأيام عن تطورٍ يقع في أحوال المهنة الدبلوماسية يرَ أن المتابع العادي قد لا يفطن إلى مقاصد تعبير "الدبلوماسية الرئاسية"، فكأنه تعبيرٌ يجافي الدبلوماسية التقليدية التي يعرفها الناس، وعاش معظم الجيل الحالي توجهاتها خلال ما عرف بحقبة "الحرب الباردة". الدبلوماسية التي يعرفها الناس قبل أن يعرفها ممارسوها هي فن التواصل بين المجتمعات البشرية. ولعلي أوجزها بلغة أيامنا هذه، فأقول إنها فن التواصل بين الأمم والحكومات. تتجاوز الدبلوماسية في عمومها أهل المهنة، وذلك طبيعي،
(3)
تنزع فطرة الانسان السويّ عن التصارع والاحتراب، وتجنح نحو السلم والاستقرار. لذا يقول لنا التاريخ القريب إن البشرية استوعبت درس حربين وقعتا في القرن العشرين، وهما العالميتان، الأولى والثانية. وفي الطريق إلى تجنب موجبات الحرب، نشأت "عصبة الأمم"، وعلى الرغم من تواضع موجهاتها وأهدافها بعد انتهاء الحرب الأولى عام 1918، فقد حققت استقرارا عقدين. أما بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945، فقد استقامت إرادة الشعوب على التعاهد والتوافق على ما يعزّز التعاون بين المجتمعات، ويعزّز إمكانية تعايشها واستقرار أحوالها. إلى ذلك، توافقت حكومات العالم، أواسط أعوام القرن العشرين، على قيم تعيد اللحمة بين كيانات المجتمع الدولي، من أجل عالم تُحسِن البشرية جمعاء العيش فيه. لعبت الدبلوماسية أدواراً عظيمة في إرساء قواعد لتعاونٍ دولي ولتنسيقٍ لازم، يستهدف استدامة السلم والأمن الدوليين. من أحكم تلك الاتفاقيات والمواثيق الدولية تلك التي اتصلت بترتيب أساليب التواصل بين الشعوب والحكومات. خرجت تلكم الاتفاقيات من رحم اجتماعات حكماء العالم وقتذاك، بينها ميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وكذلك اتفاقيتا فيينا الدبلوماسية والقنصلية اللتين وضعتا الأسس للدبلوماسيتين، الثنائية والجماعية.
(4)
غير أن الأحوال جميعها قابلة لتطور ولتحديث ولمتغيرات. ليس الماضي ولا الحاضر بمستدام، بل هو خاضع لما قد يبتكر العقل البشري من اختراعاتٍ واختراقات علمية، ومن رؤى كالأحلام، تستشرف مستقبلاً حافلاً بتجريبٍ جديد.
وقد مهدت ثورة الاتصالات والمعلوماتية لثورة في "تحرير المعلومة"، فهي لم تحول العالم إلى محض قرية كونية فحسب، بل جعلته بيتاً واحداً، متعدّد الغرف والردهات والحدائق. تحولت طبيعة التواصل بين البشر تحوّلاً كبيراً بعد الاختراق الإلكتروني الذي أحدثته الشبكة العنكبوتية، في السياسة والاقتصاد، وفي العلوم والآداب، بل وفي مختلف أوجه الحياة. إلى ذلك، أعطت تلك الثورة الدبلوماسية نفساً جديدا، متصاعداً، يراه الدبلوماسيُّ الذي مارس الدبلوماسية
بأساليبها العتيقة، وتفاصيلها الدقيقة، مثل ضوابط البعثات الدبلوماسية، وترتيب أوراق اعتماد السفراء، وتبادل الرسائل، وابتعاث الرسل وجلسات التفاوض، أمراً مستحدثاً قد يتطلب تقويماً جديداً للعمل الدبلوماسي المهنيّ المعهود.
أتذكر ورقة أعددتها في وزارة الخارجية السودانية عام 2005، ولمّحت فيها إلى ضرورة التصالح مع واقع جديد للمهنة الدبلوماسية التقليدية، والتي توقعت أن يشار إليها بعد حين، بأنها "دبلوماسية سلفية" يتوجّب تجاوزها، كان بعض من ناقش الورقة في وزارة الخارجية السودانية وقتذاك لم يرَ في الدبلوماسية "سلفية" تُذكر. وأردت، في حقيقة الأمر، أن أقول إن الدبلوماسية التقليدية حان أوان تجديدها وعصرنتها، بعد ولوجها إلى عالم يمور بأساليب التواصل الإلكتروني والوسائط التي شاعت الآن، بأسرع وتيرة يمكن تصوّرها.
(5)
من كان يتصوّر أن رجلاً مثل دونالد ترامب، يرأس أكبر دولة، وقد تجاوز سنه السبعين عاما، يبرع في إدارة دولته عبر "تويتر"، بإطلاق الرسائل الإلكترونية والتصريحات المباشرة عن أكثر قضايا بلاده حساسية، متجاوزاً، ليس فقط مؤسسية العمل في وزارة الخارجية الأميركية، بل مؤسسية العمل في "البيت الأبيض" نفسه؟ أفاد الإعلام المتعصرن الرجل فائدة كبرى، بأن أتاح له الحضور اليومي المباشر، تحت عدسات آلات التصوير والهواتف الذكية، فيكون تعبيره أكثر دقةً وأحكم هدفا. ذلك ما قد يحدث إذا ما أحسن المتابعون قراءة لغة الجسد التي أجادها، وتمعّنوا في ملامحه، وفي حركة يديه، وفي تسارع خطواته، وفي ملبسه وربطة عنقه. من منكم (مثلاً) رأى الرجل يوماً مرتدياً "تي شيرت"، أو شاهده مسترخياً في مباذله؟
(6)
على أن مثل هذا المسلك الذي أرتآه ترامب، في إدارة أحوال الولايات المتحدة، يطرح تعقيداتٍ، بل تحديات عديدة، لعلّ من أوضح تلك التحديات أن الأسلوب الذي اتبعه تجاوز متطلبات المؤسسية، في دولة مثل الولايات المتحدة، يحكمها دستور راسخ، وممارسات رئاسية متجذرة، يرى كثيرون في الإعلام الأميركي أن ترامب قد فارقها بإصرارٍ مبين، وتعمّدٍ صادم. حيوية حضور الرئيس اليومي وتصريحاته الغرائبية، عبر وسائط التواصل الاجتماعي، جعلته عرضةً لانتقادٍ متصاعد من أجهزة الإعلام الأميركي، وصلت إلى حد التلاسن مع تلك الأجهزة والشطط في مخاصمتها.
يطرح أسلوب الرئيس ترامب في البيت الأبيض إشكالية غاية في الأهمية، تتصل بكيفية توافق تصريحاته المرسلة مع توجّهات مؤسسات الدولة، وخصوصا مع وزارة الدبلوماسية التي تعالج علاقات الولايات المتحدة الخارجية، وهي الجهة الرسمية التي يفترض أن تقدم الاستشارة الرصينة لمؤسسة الرئاسة في البيت الأبيض.
(7)
لعلّ تقديم سفراء بارزين في الأشهر الستة الأخيرة استقالاتٍ مسبّبة من وزارة الخارجية
استقال سفير الولايات المتحدة في جمهورية أستونيا، جيمس ميلفيل، احتجاجاً على تصريحات الرئيس ترامب الحادة، ضد دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، مستخفاً به ومتهماً إياه بالتقاعس في تحمل تبعات مواجهات متوقعة بين أستونيا وجارتها إلى الشرق: "روسيا الاتحادية". وفي كينيا، استقالت السفيرة الأميركية من نيروبي، وهي التي تشرف على ممثلية الولايات المتحدة في الصومال، احتجاجاً على تراجع السياسة الأميركية في اعتماد حقوق الإنسان أولوية في تلك المنطقة. قبلها بأشهرٍ قليلة، استقال السفير الأميركي في بنما لصعوبة القيام بمهمته، وعجزه عن التنسيق للعمل تحت دبلوماسية إدارة ترامب.
(8)
ثمّة إشكالية في أسلوب "الدبلوماسية الرئاسية" التي يتبعها الرئيس الأميركي، أفضت إلى حقيقةٍ لا لبس فيها، إذ إن اختصار إعلان المواقف السياسية بإطلاق التصريحات المختزلة، عبر "تويتر"، أو تبادل الأحاديث عبر الهواتف الذكية، يخصم مباشرة من الدبلوماسية المهنية، ومن رصانة أدائها المؤسسي، ويضعف، عموماً، دورها الاستشاري والتنفيذي، غير أن الصورة أكثر تعقيداً ممّا قد يبدو، إذ قد يشكل ذلك التنسيق (وتلك الممارسات) تجاوزاً لافتاً لما أقرّته الاتفاقيات الدبلوماسية والقنصلية التي اعتمدها المجتمع الدولي في فيينا، منذ ستينيات القرن الماضي، والتي عنيت بضبط الممارسات والأساليب الدبلوماسية. إزاء التطور الواقع في وسائل التواصل الاجتماعي، ونحن نوشك أن نطوي العقد الثاني في الألفية الثالثة، الأوجب أن تتم زيارة الاتفاقيتين، بغرض المواءمة بينهما وبين التطور الذي وقع في أساليب الاتصال والتواصل بين الشعوب والحكومات، وهو عصب العمل الدبلوماسي المعهود. على الاتفاقيات الدولية أن تعتمد المتغيرات التي استجدّت، وأن تعمل على استحداث معايرة لـ"الدبلوماسية الرئاسية" المباشرة التي يتبعها بعض رؤساء الدول في التواصل مع شعوبهم، ومع الأمم والبلدان الأخرى. إن "الدبلوماسية الرئاسية" إن اعتمدت من دون معايير وضوابط، فإنها مفضيةٌ إلى اضطرابٍ لن يفيد العلاقات الدولية في شيء، بل ربما أحدث خسارات وتناقضات وخصومات.