الجزائر.. غرابة العمران وغربة السكن

11 فبراير 2015
حكايات ما وراء التلال (فايز نور الدين/فرانس برس)
+ الخط -
هناك، وراء التلال المتاخمة للعاصمة الجزائرية، رحت أسأل السائق عن هذه الضواحي التي تبدو عبارة عن مشاريع إسكانية حكومية، كما يدل طابعها التقشفي وهندستها الخالية من أي تزيين أو عناية، وكان هو يتذكر الخطط الاشتراكية في عهد الرئيس هواري بومدين، وتوزيع الشقق الجديدة على الفقراء وصغار موظفي الدولة، أو الذين خدموا في الجيش وأولئك المحسوبين من "أهل الثورة"، ممن لم يكن لهم حظ السكن في قلب العاصمة.

طوال تجوالي هناك، كنت أنتبه إلى معالم البنايات التي تركها السكان هكذا تتقادم، من دون صيانة أو تجديد لدهانها أو الحفاظ على نظافة مظهرها. مبان تم تشييدها على عجل، ربما في مطلع السبعينيات، كي تستوعب أكبر عدد من العائلات، التي تبدو مكتظة ومحشورة في هذه "العلب" أو الشقق الضيقة ذات الغرف الصغيرة. وعلى الأرجح أن كل أسرة هنا كثيرة الأفراد، وهي تتكدس في مساحات ضيقة، على نحو يكون العيش فيها عبارة عن كابوس يومي.

السكان، على الأغلب، لا بد أنهم يعتنون بدواخل شققهم، لكنهم تركوا المباني نفسها منذورة للإهمال، كما لو أنها غريبة عنهم، أو ليست ملكاً لهم. كأن شعوراً دفيناً يخالجهم بأنهم في إقامة مؤقتة، أنهم غرباء عن هكذا سكن في شقق من طوابق. ربما كانت منابتهم الريفية تجعلهم لا يألفون هكذا هندسة سكنية أصلاً. وبمعنى آخر، كانت تلك المشاريع الإسكانية المستوردة من النموذج السوفييتي لا تأخذ في الاعتبار الشرط الاجتماعي وثقافة السكان، هؤلاء الذين لا يغادرهم الشعور الغامض بأنهم مقتلعون من مكان أصلي منسي، ومتوطنون في مكان "أجنبي"، ولو كان داخل وطنهم.

المشهد الآخر الذي تقدمه تلك الضواحي، هو هذا الجلوس شبه الأبدي للشبان ولمتوسطي السن ولكباره أيضاً. رجال من مختلف الأعمار لا يفعلون شيئاً سوى تمضية الوقت هكذا على الأرصفة وفي جنبات الساحات وعند الزوايا وأمام الدكاكين والمقاهي المرتجلة. كسل إجباري، أو عطالة عمومية قسرية، بطالة متفاوتة الدرجات، لكنها مهيمنة على طول أيامهم الناعسة. كآبة عامة تغلف تلك الضواحي السكنية، التي يسرع إليها التهالك بعامل الفقر من ناحية، وبأثر الإهمال (الفساد) الحكومي من ناحية أخرى.

أما على السفوح المطلة على العاصمة، التي لا تزال تحتفظ بطابعها الحرجي كثيف الأشجار، فقد تكاثرت تلك الضواحي الأنيقة، فيلات وقصور جديدة لطبقة من الأغنياء الجدد، الذين باتوا يجاورون طبقة الأثرياء القدماء والعائلات العريقة ومساكنهم الفخمة. مجاورة لا تلغي الاختلاف بين قديم مشبع بالرهافة والأصالة الهندسية، بل والابتكار الأنيق لمزيج العمارة التراثية الإسلامية وتطويراتها العثمانية، وصولاً إلى الهندسة الكولونيالية واقتراحاتها الاستشراقية الخلابة. فيما عمران الأغنياء الجدد لا يكفّ عن التكلّف والمباهاة والاستعراض البالغ، لأبهة تفتقر إلى الانسجام أو الأصالة، ولا تخلو من وقاحة "الكيتش".

عمران خال من الذاكرة، لا يتصل بأي علاقة ثقافية في المكان. عمران هو بدوره يبدو أجنبياً، فيما سكانه على الأرجح يتماهون مع "أجنبة" هي من صنيع مخيلتهم أو توهانهم.

في قلب العاصمة، تظهر المفارقة الكبرى، مدينة "فرنسية" كولونيالية بالكامل، واحدة من أجمل مدن العالم. كبسولة مكانية- زمانية، كما لو أنها سينما أكثر مما هي واقع. هي أشبه بجوهرة جغرافية عمرانية. تجسيد بديع لفكرة خيالية عن مدينة متوسطية: بحر وجبل متلاصقان، وشمس وصنوبر وميناء ومساحة كافية لاحتضان مدينة، تم تشييدها بعناية امبراطورية مزدهرة، في عصر شديد الولع بالأناقة. وبالطبع كان ثمن ذلك اقتلاع السكان الأصليين (أمازيغ وعرب وأتراك..) وهدم الأسوار والمدينة القديمة، فلم يبق سوى حي القصبة من "المدينة الإسلامية" الأفريقية.

المفارقة أن من بنى المدينة الحديثة هجرها، بعد انتصار الثورة وتحقيق الاستقلال عام 1962. أولئك "الأجانب" المستعمرون، رحلوا عن مدينتهم، ليصيروا في فرنسا أيضاً أجانب من نوع آخر، وباسم آخر "الأقدام السوداء"، تاركين وراءهم عمارتهم التي تشبههم وتشبه زمنهم الآفل.

الجزائر "الأجنبية" احتلتها دولة الاستقلال، صادرتها من أجل أن تعيدها إلى الوطن. هكذا، راح أهل الثورة وأصحاب الحظوة منهم وإدارتهم يسكنونها ويستولون عليها ويستوطنونها. بوصفهم ورثة السكان الأصليين، كانوا يحاولون استرداد ما حرموا منه لأكثر من 120 عاماً.

لكن، هذه المدينة لم تتوقف يوماً عن إظهار المفارقة الكبيرة بين طراز عمرانها وأساليب هندستها وأنواع مرافقها من جهة، ونوع السكان ونمط عيشهم وثقافتهم وطقوسهم، شديدة الاختلاف عن ما توحي به تلك المباني.

غربة متبادلة بين المكان والسكان. أجنبية مضاعفة، تتفاقم بدورها مع التفاوت الكبير بين "الأبهة" العمرانية وفقر حال السكان وقلة الحيلة والتدبير. قلب العاصمة الجزائرية، وعلى نحو عجائبي، ظل كما هو لحظة إخلائه من المستوطنين الفرنسيين. لم تفعل العقود الخمسة المنصرمة سوى مراكمة الاهتراء والعتق عليه، طالما أن دولة الاستقلال تركته هكذا كما هو، ما عدا تغييرها أسماء الشوارع والساحات. ما من خطط تطويرية ولا مشاريع إعمار كبرى فيه ولا ترميم ولا صيانة تقريباً، تماماً كما لو أنه مكان معلق وموقوف وأجنبي.

هنا أيضاً، في شوارع العاصمة، وحدائقها وساحاتها، ينتشر على نحو كثيف طوال الوقت عشرات الألوف من الرجال، معظمهم من الشبان، لا يفعلون شيئاً سوى قتل الوقت ضجراً وعطالة. إنهم الظاهرة الاجتماعية الأبرز، إذ لهم تسمية خاصة: "حيطِسْت" أي أصحاب الحيطان، المتكئون عليها ليلاً ونهاراً، لا عمل لهم ولا شغل ولا مستقبل.. قنبلة اجتماعية تخزن العنف والكراهية والشعور بالخذلان. إنهم غرباء مدينتهم، هامشيوها الأشد يأساً.

حتى حي القصبة الشهير، ظل كما هو مكتظاً وعتيقاً ومتهالكاً، بل وأيضاً ظل كما في العهد الفرنسي، منبوذاً ومصدر ريبة السلطة، ومنبت عصيان وممانعة أهلية، وانغلاقاً وعداوة عصبية في وجه المدينة الحديثة وأهلها. ظل هكذا مركزاً للفقراء المهمشين، الغاضبين دوماً.

اكتسب حي القصبة، الذي يجاوره المبنى الضخم للبوليس السياسي، بعد حرب التسعينيات، شعوراً عميقاً بالغربة عن الدولة وعن المدينة، وإذا كان هذا تاريخه "البطولي" في وجه دولة الاستعمار، فهو الآن يواجه دولة الاستقلال، فتتراكب الضغينة الاجتماعية الناتجة عن التهميش، مع الضغينة السياسية الناتجة عن دموية الصدام الإسلامي- العسكريتاري.

هكذا على الأرجح، يشعر أهل الحي بأنهم "أجانب" في دولتهم، في مكانهم الذي ما عاد مماشياً للحياة الحديثة وأنماطها الاستهلاكية، كأنهم عالقون في كبسولة أركيولوجية.

من تلال حيدرة والأبيار، إلى أحياء باب الواد، مروراً بشارع ديدوش مراد وبولفار تشي غيفارا، والجامع الكبير وساحة الشهداء والقصبة، تأتلف الجزائر على أجزائها المتباعدة غربة وانفصاماً مريرين، اجتماعاً وسياسة وصلة مأزومة بالزمن وبالذاكرة.

وهذه ليست محنة مدينة الجزائر وحدها، بل وربما تكون أقل كارثية من أحوال المدن العربية الأخرى، التي يتراوح مصيرها بين التمزق أو الخراب أو الموت البطيء.
المساهمون