استمع إلى الملخص
- أسس مدرسة "دار الموسيقى" في بيروت عام 1910، التي أصبحت "المعهد الموسيقي الوطني اللبناني"، وعمل على مشروع "البيانو الشرقي" لدمج النغمات الشرقية في البيانو، وساهم في نشر الموسيقى في لبنان بتعليم مجاني.
- فاز في مسابقة تلحين النشيد الوطني اللبناني عام 1927، ونال مشروعه الموسيقي اهتماماً واسعاً، وحصل على أرفع الأوسمة اللبنانية، مما يعكس إبداعه الذي يتجاوز الحدود الجغرافية.
قد لا يدرك كثير من الشباب اللبناني اليوم ما الذي يعنيه أن يضع موسيقي بيروتي لحن النشيد الوطني العثماني، بعد استدعاء رسمي إلى عاصمة "الدولة العلية" إسطنبول. لكن هذا الحدث الفني الكبير لم يكن ليصبح جزءاً من حقائق التاريخ اللبناني لولا أن عرفت بيروت ذلك الشاب الموسيقي العلامة الذي حمل اسم وديع صبرا (1876 - 1952) ابن بلدة عين الجديدة في منطقة بحمدون في جبل لبنان، وهو رجل هيأته الأقدار الفنية ليكون أباً للموسيقى اللبنانية في شقيها، الإبداعي والتدريسي.
بعد أن قطع في مسارات العلم والإبداع والتدريس مسافات بعيدة، ستنوء بها الهيئات والأكاديميات، وتكاد تستحيل على الأفراد، ولا سيما في ذلك الزمن المبكر، أواخر القرن التاسع العشر. وفي المعالم الكبرى لتلك المسيرة، يبرز الحدث الكبير، متمثلاً في تلحين النشيد الوطني اللبناني، الذي يقترب عمره من 100 سنة، ويُعَدّ أعرق الأناشيد الوطنية العربية قاطبة.
واصل دراسته الابتدائية في المدرسة التي يديرها والده
على جانبي الرحلة، ستلوح أهم محاولة لتعريب آلة البيانو، وأول أوبرا عربية، بل وأول أوبرا تركية، وتدشين الكونسرفتوار اللبناني، وكونسرفتوار إسطنبول، وإدارة موسيقات الجيش، والمشاركة في مؤتمر الموسيقى الأول بالقاهرة، وعزف على الأرغن في قلب باريس.
حمل وديع صبرا وعياً مبكراً بأهمية الدرس الفني الجاد، وبذل الوقت والجهد لتحصيل العلم الموسيقي، فتتلمذ لبعض الأساتذة غير الشهيرين، ولم يكن قد بلغ 12 عاماً، وواصل دراسته الابتدائية في المدرسة التي يديرها والده، ثم التحق بالمدرسة الإنجيلية، التي تحولت لاحقاً إلى الجامعة الأميركية.
عقب تخرجه، طمح إلى مستوى أرفع من التعليم. ولنبوغه الظاهر، أتاح له القنصل الفرنسي في بيروت، سانت رينيه تيلاندييه، منحة دراسية للالتحاق بالمعهد الوطني العالي للموسيقى، أو كونسرفتوار باريس، فقرر السفر إلى العاصمة الفرنسية، عام 1892، أي وهو ابن 16 عاماً. وعلى مدار سبع سنوات، تتلمذ صبرا على أيدي كبار الأساتذة الفرنسيين: ألبير لافيناك، وألكسندر غيلمان، وبول فيدال، ولونوفو، وبورغو- دوكودريه، وجيروديه.
يحتاج من يرصد مسيرة وديع صبرا إلى وقفة تأمل في هذه المرحلة، وأن يرسل خياله إلى باريس، حيث يدرس صبي صغير السن، مغترب إلى عاصمة أوروبية كبيرة، ويحيط به كبار أساتذة معهدها الموسيقي الأرفع. لم يكن أحد سيتعجب من ذوبان الشخصية الفنية للفتى الصغير، الذي يدرس نظاماً موسيقياً غير الذي درسه في بلده.
عمل صبرا عازفاً أساسياً للأورغن في كنيسة الروح القدس
لكن وديع صبرا كان حالة نادرة في قدرته على الاستيعاب والهضم من دون قطع روابطه الوثيقة ببلاده وثقافته. وفي تقييم هذه الفترة من مسيرة صبرا، قد لا يجد الباحث أفضل مما كتبه عالم الموسيقى والصحافي الفرنسي مارك هنري مانغي (1909- 1994) الذي عمل في لبنان لفترات طويلة.
يقول: "لا تشبه شخصية وديع صبرا الموسيقية أي شخصية أخرى. إنه ابن الشرق، الذي أُرسِل إلى فرنسا في سنٍّ مبكرة ودرس الموسيقى الأوروبية في باريس، لكن من دون أن يفقد الصلات ببلده الأم. بالنسبة إلى عقل أقلّ اتزاناً، لن تؤدّي الدراسة المزدوجة إلا إلى الضياع والارتباك، خصوصاً أن مفهوم الجمال الموسيقي يختلف كلياً بين الغربيين والشرقيين. لكنّ ذكاء صبرا سمح له بأن يصبح، بطريقةٍ ما، متعدّد اللغات موسيقيّاً، لدرجة أنّه يروِّج بحماسةٍ للموسيقى الفرنسية عندما يزور وطنه الأم، ويصبح المبادِر إلى تطوير أسلوب الموسيقى العربية المثير عندما يكون في باريس".
يتعزز حديث مانغي بشهادة مهمة لألبير لافينياك، عميد الأساتذة في كونسرفتوار باريس، إذ يقول: "يجب أن نرى في وديع صبرا فناناً ذا قيمة عالية، يتحدث ويكتب بلهجتين موسيقيتين مختلفتين كلياً، وبالسهولة نفسها، مع إدراك سحرهما وجمالهما بالتساوي، وهذه حقيقة فريدة في تاريخ الفن". بعد التخرج، عمل صبرا عازفاً أساسياً للأورغن في كنيسة الروح القدس الشهيرة في باريس، واستمر في هذه المهمة لنحو عشر سنوات، لتكتمل مدة دراسته وتمرينه وعمله في فرنسا 16 عاماً.
كان عام 1908 محطة مفصلية في مسيرة صبرا، فقد عاد إلى بيروت للاشتراك في مسابقة تلحين النشيد الوطني العثماني، واختارت لجنة التحكيم لحنه. ترتب عن ذلك تلقيه دعوة رسمية أرسلها "الباب العالي" لزيارة إسطنبول، حيث أجريت له مراسم التكريم. وعزفت لحنه أوركسترا ضمّت مئات الموسيقيين أمام حشد من عشرات آلاف المستمعين.
عقب عودته إلى بيروت، أسّس وديع صبرا مدرسة "دار الموسيقى" سنة 1910، بمرسوم للسلطان عبد الحميد، وهي أول مدرسة موسيقية لبنانية، وأصدر مجلّة موسيقية شهرية، اعتبرها كثيرون في المرتبة الأولى عربياً من حيث الدقة والتزام المنهج العلمي. وحين عاد سنة 1918 إلى إسطنبول، عيّنته الحكومة التركية رئيساً لأساتذة المدرسة الموسيقية البحرية لفترة جاوزت العام.
خلال سنوات الحرب العالمية الأولى، لم تستطع مدرسة "دار الموسيقى" أن تواصل عطاءها، فعاد صبرا إلى باريس وهو منشغل بمسألة ما يُعرف بـ"البيانو العربي"، أي آلة بيانو قادرة على عزف النغمات الشرقية ذات "الأرباع" الصوتية. بذل صبرا جهوداً مضنية في سبيل تحقيق أمنيته. تواصل مع شركة Pleyel للأدوات الموسيقية، فقدّم إلى عالم الصوتيات غوستاف ليون نتائج بحوثه التقنية حول السلّم الموسيقي الشرقي. عاد صبرا إلى بيروت وفي ذهنه مشروع شبه مكتمل لتصميم آلة "البيانو الشرقي".
وفقاً للعازف والأكاديمي اللبناني جورج روفائيل، فإن صبرا استطاع أن يصمم آلة لقياس الأصوات التي تؤلف السلم الموسيقي "العالمي"، وقد قادته أبحاثه في النهاية إلى اختراع بيانو شرقي - غربي مؤلف من لوحتين قادرتين على أداء أرباع الأصوات. للأسف، تلف هذا البيانو بسبب إهمال القيّمين على الموسيقى، وتلفت كذلك الآلة المذكورة. أخذت فكرة "البيانو الشرقي" من صبرا جهداً كبيراً، لكن النتائج النهائية لم تكن بحجم هذا الجهد.
في عام 1920، وبتسهيلات من الانتداب الفرنسي، أعادت السلطات فتح مدرسة "دار الموسيقى". وبعد نحو خمس سنوات، تحولت الدار إلى "المعهد الموسيقي الوطني اللبناني" أو كونسرفتوار بيروت، الذي ترأسه صبرا حتى رحيله، وكان التعليم فيه مجانياً، وهو ما كان له الدور الأكبر في نشر الموسيقى، وإقبال الشباب على التعلم، وتخريج أساتذة وفنانين كبار.
وكان عام 1927 فارقاً في حياة صبرا، فوقع الاختيار على قصيدة الشاعر رشيد نخلة لتكون النشيد الوطني الرسمي، بعد مسابقة أطلقتها رئاسة الجمهورية، وشكلت لأجلها لجنة برئاسة وزير المعارف العمومية والفنون الجميلة، نجيب أميوني، وأجريت مسابقة لتلحين النص المختار، وكان صبرا فارس ذلك الميدان. وبعد ثلاث سنوات فقط، يكمل هذا النشيد الوطني 100 عام، من دون تبديل أو تغيير، ليكون أحد أهم البراهين على ريادة صبرا في الحياة الموسيقية اللبنانية، بل والعربية. فاز لحن صبرا على 28 لحناً اشترك أصحابها في المسابقة.
لسنوات، وربما لعقود، نال مشروع صبرا الموسيقي اهتمام الدارسين والباحثين والأكاديميين، في لبنان وخارجه. ووضعت حول منجزه الفني والعلمي كثير من المقالات والكتب والأبحاث الجامعية. من أمثلة تلك الدراسات، كتاب الباحثة زينة صالح كيالي بعنوان "وديع صبرا مؤلفاً موسيقياً" في 320 صفحة باللغة الفرنسية ضمن سلسلة "أَعلام موسيقيُّون من لبنان"، وأصدر البارتيون فادي جنبيرت كتابين عنه بحثاً ونصوصاً ونوتات. نال الرجل أرفع الأوسمة اللبنانية، وفي مقدمتها "الأرز" و"الاستحقاق"، وبعض أبحاثه ومؤلّفاته الموسيقيّة منشور في كتب ومجلّات في لبنان وفرنسا، وكذلك كتاب "ترانيم بروتستانتيّة".
تمثل شخصية وديع صبرا الرائدة والملهمة نموذجاً صالحاً للتذكير بالإسهام الموسيقي الذي قدمه لبنان إلى العرب، وهو إسهام يكاد يتناسب عكسياً مع الحجم الجغرافي والسكاني لهذا البلد، فيصغر البلد ويكبر العطاء، حتى تبدو بيروت وكأنها أعظم عواصم الاستنارة العربية، أو يبدو لبنان بملحنيه ومطربيه وعازفيه ونشيده الوطني العريق وكأنه دولة عظمى ثقافياً وموسيقياً.