الأردن والاتفاق الإسرائيلي - الإماراتي
هل فعلاً فوجئ المسؤولون الأردنيون بالاتفاق الإسرائيلي - الإماراتي الذي عُقد أخيراً برعاية أميركية، كما تؤكد مصادر أردنية رفيعة؟ الأغلب أنّ ذلك صحيح، فعلى الرغم من زيارة ملك الأردن، عبد الله الثاني، أواخر الشهر الماضي (يوليو/ تموز) أبوظبي، وحرصه على التواصل والاتصال الدائم معها، ومع السعودية ومصر، وهم حلفاء الأردن في معسكر ما كان يعرف بـ"الاعتدال العربي"، منذ عام 2006، إذ تعمّقت العلاقات والتحالفات فيما بين هذه الدول في مواجهة ما كان يعرف بخطر التمدّد الإيراني (حينها، أو معسكر الممانعة من إيران وحزب الله وحركة حماس والإسلاميين)، ثم تحوّل اهتمام هذا المعسكر لاحقاً إلى ممانعة الربيع العربي وصعود تيارات الإسلام السياسي، الأمر الذي أنجز الانقلاب على التجربة الديمقراطية المصرية في 3 يوليو/ تموز 2013 في مصر.
يشارك الأردن حلفاءه الاستراتيجيين (الإمارات والسعودية والبحرين ومصر) توجهات سياسية واستراتيجية إقليمية عديدة، خصوصاً ما يتعلّق في الموقف من القوى الإقليمية (إيران وتركيا)، والعلاقة الجيدة مع الولايات المتحدة الأميركية تاريخياً، والمخاوف من الربيع العربي والقوى الإسلامية السياسية وأجندتها. في المقابل، بدأت الخلافات تظهر بوضوح بين توجهات الأردن وهذه الدول منذ عام 2016، في إدارة السياسات الخارجية، فكان له موقف متحفّظ (غير معلن) في موضوع التدخل العسكري في اليمن. وحاول الملك عبد الله الثاني إقناع حلفائه بالحل السياسي، وقد تواصل معه الحوثيون للقيام بدور وسيط، لكن الجواب كان الرفض. ولم يشارك الأردن بصورة حقيقية وفعّالة في تلك الحرب، ما أحدث فجوة بينه وبين حلفائه.
يشارك الأردن حلفاءه الاستراتيجيين (الإمارات والسعودية والبحرين ومصر) توجهات سياسية واستراتيجية إقليمية عديدة، خصوصاً ما يتعلّق في الموقف من القوى الإقليمية (إيران وتركيا)
ولم يكن الموقف من الإسلام السياسي على درجةٍ متساويةٍ أيضاً، فالنظام الأردني، وإن كانت له مشكلاته المتصاعدة مع "الإخوان المسلمين"، إلّا أنّه لم يذهب نحو تجريمهم ووسم جماعتهم بالإرهاب، واعتقال أعضائها ومحاكمتهم، مع الموجة التي اجتاحت حلفاءه منذ عام 2013، على الرغم من اقترابه أخيراً من هذا الخط، إلّا أنّه لا يزال متحفّظاً من الوصول إلى "أخونة الإرهاب".
وتتمثل الخلافات الاستراتيجية بين الأردن والحلفاء بالموقف من "صفقة القرن" التي تتوارى وراءها عملية ترتيب "أولويات التحالف". فبينما يرى "الحلفاء" أنّ الأولوية لمواجهة التهديدين الإقليميين، الإيراني والتركي، والإسلاميين في الداخل، يرى الأردن أنّ ذلك لا يعني تفريطاً في القضية الفلسطينية، ما يمسّ أمنه الوطني واستقراره الداخلي.
وعشية إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي وصلت العلاقات بينه وبين الملك الأردني عبد الله الثاني إلى ذروة التأزيم، نقل السفارة الإسرائيلية إلى القدس المحتلة (قبل عامين)، كان العاهل الأردني يحذّر من انفجار الأوضاع في المنطقة العربية، بينما يؤكد له الرئيس الأميركي أنّه تفاهم مع دول عربية على هذا الأمر، ما كان يعني للأردن أنّ فجوة تتسع بينه وبين هذه الدول.
تتمثل الخلافات الاستراتيجية بين الأردن والحلفاء بالموقف من "صفقة القرن" التي تتوارى وراءها عملية ترتيب "أولويات التحالف"
وكما كان قد وشى ترامب للعاهل الأردني حدث، فجاء رد الفعل العربي باهتاً محدوداً، ولم تفلح محاولات الأردن من أجل تنشيط الديبلوماسية العربية، فلجأ إلى تركيا، وقام معها بخطوات تصعيدية ضد الإعلان الأميركي، وجرى احتواء الأزمة مع الإدارة الأميركية من خلال شبكة العلاقات المتينة للملك مع المؤسسات والنخب الأميركية. ولاحقاً، عادت الديبلوماسية الأردنية، وتراجعت خطوات إلى الخلف وفرملت من اندفاعها، خشية من الانجرار مع خطوات تركيا التصعيدية، أو الخطاب الإيراني، اللذين وإن اتفقا مع الأردن في رفض القرار الأميركي، إلّا أنّهما يمثّلان للأردن محاور إقليمية مختلفة، حتى وإن تحسّنت علاقة الملك شخصياً مع الرئيس التركي، أردوغان، في الأعوام الأخيرة، لكن الهواجس والخلافات المتبادلة بقيت قائمة بين السياستين، التركية والأردنية.
وكان إعلان الرئيس الأميركي صفقة التسوية محطّة أخرى لتوسيع شقة الاختلافات بين الأردن وحلفائه. ففي وقتٍ لم يستجب فيه المسؤولون الأردنيون للضغوط الشديدة من جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترامب، عشية إعلان الصفقة بإخراج موقف مؤيد لها، فإنّ الدول العربية الحليفة استجابت، وأصدرت بيانات مؤيدة ومرحبة.
ثم جاءت الخطوة الإماراتية أخيراً لتضعف الموقف الأردني بدرجة أكبر، وتحجّم كل الجهود المبذولة ديبلوماسياً من المسؤولين الأردنيين مع الأوروبيين والمسؤولين الأميركيين، وهي جهودٌ كان لها دور في إقناع المسؤولين الأميركيين بتأجيل ضمّ الأغوار والمستوطنات في الضفة الغربية، خشيةً من ردود الفعل، فيما يأتي الاتفاق الإماراتي - الإسرائيلي ليجهز تماماً على أي محاولات أردنية لبناء خندق ديبلوماسي عربي مشترك، يعزّز من الموقف الفلسطيني في مواجهة الاختلالات الاستراتيجية في ميزان القوى.
جاءت الخطوة الإماراتية أخيراً لتضعف الموقف الأردني بدرجة أكبر، وتحجّم الجهود المبذولة ديبلوماسياً من المسؤولين الأردنيين مع الأوروبيين والمسؤولين الأميركيين
كان توقيت الاتفاق الأميركي - الإماراتي صادماً للأردن، بخصوص ما بقي من ولاية الرئيس الأميركي ترامب، فيما تشير الاستطلاعات إلى تراجع شعبيته، الأمر الذي يعوّل عليه الأردن كثيراً في لجم الاندفاع الأميركي نحو إسرائيل، وإحداث درجةٍ أفضل من التوازن في الموقف الأميركي. ويأتي الاتفاق ليقدّم خدمة كبيرة للرئيس الأميركي، مع الناخبين المؤيدين لإسرائيل. وفي الوقت نفسه، يعزز القناعة بأنّ الحسابات الأردنية اليوم أكثر تعقيداً وتركيباً في المنطقة، والأهم أنّ الدور الاستراتيجي الذي كان يميّزه بسبب علاقاته وموقعه الاستراتيجي في جوار الأراضي المحتلة يتفكّك بصورة واضحة، ويتراجع حجم تأثيره الذي شكّل تاريخياً أحد أهم موارده الاقتصادية ومصادر قوته الدولية والإقليمية.
لا يراهن الأردن على تغيير استراتيجي لتحالفاته الإقليمية والدولية، على الرغم من حجم الفجوة الكبيرة بين رؤيته وحساباته ومواقف الحلفاء، لكنّه، في المقابل، يبدو معزولاً عن السياسات الإقليمية بدرجة كبيرة، سواء القوى الإقليمية المؤثرة (تركيا وإيران) أو حتى المعسكر العربي المحافظ الذي لا يعطي الأردن موقعاً قيادياً، كما كانت عليه الحال تاريخياً.