طرح العدوان البري على غزة أسئلة حول علاقات الجيش الإسرائيلي بـ"الربّانيين"، ومدى تأثيرهم في الجنود والمرجعية، التي يحتكمون لها، وما إذا كانوا يلتزمون بمرجعية الدولة أم بالمرجعية الدينية للربانيين؟
دائماً ما كانت إسرائيل تتغنّى بأن جيشها، خلافاً لباقي الدول الأخرى، هو "جيش الشعب"، من ناحية تكوينه من مجمل القطاعات الاجتماعية الممثلة للشعب الاسرائيلي (طبعاً باستثناء فلسطينيي الداخل والحريديم الذين يرفضون الخدمة العسكرية).
وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا الجيش يخضع كلياً للطبقة السياسية والقيادات المدنية المنتخبة من المواطنين لتشكيل الحكومة. وكشف العدوان على غزة، قيام وزير الاقتصاد نفتالي بينيت، بجمع المعلومات من ضباط وقادة الجيش الميدانيين، وتلقّي معلومات من الحاخام الرئيس السابق للجيش أفيحاي رونتسكي، فضلاً عن تأدية الصلاة والابتهالات، التي قرأها ووزع نسخاً منها، قائد وحدة جفعاتي.
وتمكّن بينيت، مطلع الأسبوع الحالي، من احتواء مسألة الحصول على معلومات من الحاخام العسكري السابق، بطرق غير قانونية وغير شرعية، وورّط ضباط وقادة عسكريين آخرين، كما استقى معلوماته منهم، وحصر حواره وأحاديثه مع رونتسكي، رافعاً معنويات الجنود القتالية.
لكن مسألة هوية الجيش الإسرائيلي وميول جنوده، مع ازدياد تعداد المتدينين الصهيونيين في وحداته المختلفة، خصوصاً القتالية منها، بقيت معلقة، مع طرح تساؤلات يعتبرها أنصار جيش الشعب "مقلقة للغاية"، وتهدد مستقبل الجيش، وتُنذر بتحوّله إلى "جيش الرب" وتحويل إسرائيل في نهاية المطاف، إلى دولة دينية.
وفي السياق، كان الخبير القانوني مردخاي كريمنتسر، قد حذّر من مخاطر تحوّل الجيش إلى ميليشيا دينية، ومن عمليات جارية لتعزيز الطابع الديني فيه، عندما خصص في 31 أغسطس/ آب الماضي، مقالا خاصا حول رسالة العقيد عوفر فينتر، التي وزّعها على جنوده واعتمدت على الصلوات الدينية والابتهالات.
واعتبر فينتر أن "الجيش يخوض حرباً من أجل الرب ومن أجل إسرائيل"، داعياً إلى "بذل كل ما يلزم لتحقيق النصر، دون أي تحذير لواجب التمييز بين المدنيين والمقاتلين".
ولفت كريمنتسر، في مقاله المنشور على موقع "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، إلى أن "رسالة الحرب التي وزعها وقرأها العقيد فينتر على مقاتليه، هي نتاج عمليات زرع الهوية الدينية اليهودية المحددة والضيقة، وفق مفاهيم الصهيوينة الدينية التي يمثلها البيت اليهودي في الجيش الإسرائيلي من خلال مديرية خاصة يترأسها الحاخام رونتسكي".
كذلك كشف كريمنتسر أيضاً، أن "إقحام الدين والتوراة في الجيش الإسرائيلي ونشاطه، هو للتغطية على الفراغ الذي يخلفه جهاز التعليم الإسرائيلي، الذي يفتقر إلى تدريس وزرع القيم الإنسانية العالمية والقيم اليهودية".
ولفت إلى "جلسات وجولات حوار واستشارة للجنود والضباط مع كبار الحاخامات من التيار نفسه الذي يمثله الحزب اليهودي، ويترأسه اليوم بينيت، من دون أدنى محاولة للمحافظة على التوازن مع باقي التيارات".
ويرصد كريمنتسر في هذا السياق، حالات أخرى، لمحاولات بسط هيمنة يهودية دينية على الجيش والجنود، وهو ما يشكّل خطراً على مستقبل الجيش وولائه ومرجعيات جنوده. وحذّر من أن يصبح لكل جندي متديّن مرجعية دينية يحتكم إليها عند الأزمات، وعند تكليفه عسكرياً بتنفيذ أوامر، تتناقض بحسب الحاخامات، مع التوراة.
وقد يكون بين الجنود من يفضل الاحتكام إلى مرجعيات، مثل الحاخام يوسف أليتسور والحاخام اسحق شابيرا، اللذين وضعا كتاب "توراة الملك"، الذي يُجيز قتل النساء والأطفال، لأن "الأطفال سيكبرون في نهاية المطاف، وسنضطر عندها لقتلهم".
وكلما زادت درجة التدين في الجيش، زادت احتمالات عدم القدرة على تنفيذ قرارات سياسية مصيرية، مثل إخلاء المستوطنات بفعل الخوف من تمرد الجنود على هذه الأوامر، وفقاً لتعليمات الربانيين.
وفي هذا السياق، يوضح كريمنتسر أن "التدين في الجيش هو مسألة إعلاء الروح الدينية والقومية اليهودية مقابل شيطنة الآخر والعدو، عبر تحويله عملياً في نظر الجنود، ليس إلى مجرد عدو لإسرائيل فحسب، وإنما أيضاً لرب إسرائيل، وهو ما يُقرب الجيش في هذه الحالة للمليشيات الإسلامية الأصولية في خطابها عن الجهاد وقتال أعداء الله".
لكن الجانب الآخر، الذي يلقي كريمنتسر عليه الضوء، هو ما يتعلق بالموقف من رفض خدمة النساء في الجيش أيضاً بسبب أحكام التوراة. وهذا سيقود في نهاية المطاف إلى عزوف غير المتدينين عن الخدمة في الجيش، وتوقف المواطنين العاديين العلمانيين عن اعتبار الجيش الإسرائيلي جيشاً للشعب والنظر إليه كجيش للرب، بحسب تعبير كريمنتسر.
ويخلص كريمنتسر إلى القول إن "على قادة الدولة وقادة الجيش عدم تجاهل التغييرات الجارية في الجيش، وإبداء الشجاعة المطلوبة لمواجهة هذه الظاهرة".
ويتصل كلام كريمنتسر أيضاً، بحقائق أخرى سابقة، تتعلق بمسألة إدراج المستوطنين في الخدمة العسكرية، داخل الأراضي الفلسطينية وفي محيط مستوطناتهم، ما ترك تداعيات خطيرة في أيام الانتفاضة الأولى، تمثلت بقتل متظاهرين وتباهي قادة عسكريين بذلك.
وكان أبرز هؤلاء، الوزير السابق عن "الييت اليهودي" (المفدال سابقاً) العقيد إيفي إيتام، الذي اتهم بقتل متظاهرين عزّل في الانتفاضة الأولى، وجرى الاكتفاء بتسريحه من الجيش وعدم ترقيته وانتقل بعدها إلى ميدان السياسة العامة.
وشكّلت الانتفاضة الأولى نقطة انطلاق في صفوف المستوطنين وأنصار التيار الديني الصهيوني، لتشجيع فتيانهم على الانخراط بالجيش والوحدات القتالية لكسر الانطباع العام عنهم، أنهم مجرد عبء على الدولة وأمنها. وزاد عدد الجنود المتدينين من التيار الصهيوني، الذين خدموا في الجيش، وتدرّجوا في مراتب عالية حتى رتبة جنرال، كما هو حال النائب الحالي الجنرال احتياط اليعازر شتيرن، الذي شغل في نهاية مشواره العسكري، منصب رئيس القوى البشرية في الجيش الإسرائيلي، فضلاً عن بينيت، الذي خدم في إحدى الوحدات المختارة، وسط تراجع نسبة المنخرطين في الجيش من صفوف العلمانيين واليسار الإسرائيلي.
يأتي ذلك نتيجة الزيادة الطبيعية الكبيرة في صفوف اليهود المتدينين الصهاينة، الذين تتميز عائلاتهم وأسرهم بإنجاب عدد كبير من الأولاد، مقابل اكتفاء العلمانيين والغربيين منهم خصوصاً، بولدين أو أحياناً ولد واحد فقط.
وفي هذا السياق، نشر موقع "القناة السابعة"، منتصف العام الفائت، مقابلة مع المستشار النفسي السابق للجيش رؤوبين غال، حذّر فيها من تداعيات ما سماه "تسلّط التيار الديني الصهيوني على الجيش الإسرائيلي".
وأشار إلى أن "نسبة المجندين من أبناء هذا التيار، والتي كانت قبل عقدين حوالي 1 في المئة، تصل اليوم إلى 40 في المئة، مع ما يرافق ذلك من تولّي جنود من هذا التيار مناصب رفيعة من كافة الرتب العسكرية وفي كافة الأسلحة والقطاعات المكونة للجيش الإسرائيلي".
وأشار غال، الذي وضع كتاباً عن هذا الموضوع، تحت عنوان "بين طاقية الجيش وبين القبعة المنسوجة"، وهي التي يعتمرها المتدينون الصهاينة إلى أن "نسبة التيار الصهيوني الديني في الجيش تفوق بكثير نسبة المتدينين من هذا التيار في المجتمع الإسرائيلي".