أخطر من داعش
نقاش عامة الناس الذي يمكن تصوره في أكثر من مجتمع عربي حيال ظاهرة (داعش) وأخواتها، ربما كان المتن العريض للسان حال الأغلبية الصامتة الذي تنعكس من خلاله قضايا واهتمامات، هي حقيقة ما يدور في تلك المجتمعات، بعيداً عن صياغات الخطاب الإعلامي العربي، وما يتصل به من توجهات أو توجيهات خفية (بحسب تـأويل فوكو للخطاب المنظّم والمعد سلفا).
والحال أن هذا المتن العريض لنقاش عامة الناس في المنطقة العربية، وتفسيراتهم ظاهرة داعش، يحيل على دلالاتٍ كثيرة خطيرة، ومؤشراتٍ تتصل بمنظومات وعي، قد تبدو أقل بكثير مما يحسبه ذاك الخطاب الإعلامي تعبيراً عنها؛ بما أن الأخير، أي الخطاب الإعلامي، لا ينطوي على سوية موضوعية لعلاقته مع تلك المجتمعات.
فما يدور في مجتمعاتنا العربية من نقاشات ذات طبيعة نسقية مدورة ومحدودة حيال قضايا كثيرة، هو في واقع الأمر، تعبيرات عن ميراث مشوش من الوعي الشعبوي جسّدت فيه الحيرة؛ بين وعي العالم الحديث ومنظوماته السياسية، كالهوية الوطنية من ناحية وتصورات لا تاريخية موروثة عن الإسلام من ناحية ثانية؛ فصاماً موسوساً انعكس عبر حالات وتمثلات، أقل ما يقال عنها إنها من أشكال ذهنية التخلف التي تعجز عن امتلاك ملكة الحكم الصحيح على الأشياء والمعاني.
وهو واقع يعكس سيولة شديدة للأدلجة والتأويل، يغيب معهما أي أساس معرفي لفرز قضايا النقاش التي تدور في تلك المجتمعات.
لهذا، قد تجد، بكل بساطة، من يجادل بحماس أن داعش والقاعدة، مثلاً، بما أنهما يحاربان أميركا والأنظمة العربية الظالمة؛ فذلك، بحد ذاته، كاف لتبرير كل أفعالهما من قتل للمدنيين الأبرياء، ومن اختطاف جاهل وعنيف لمعنى الإسلام، وغير ذلك من الأفعال التي يدينها الفهم الموضوعي لحقيقة داعش أو القاعدة.
وأمام مجتمعاتٍ ليست لديها القدرة على المعرفة الضرورية لفرز منظومات كثيرة للفكر الموضوعي، المتصلة بذاتها وبالإسلام والعالم؛ فإن أخطر ما يمكن أن تنطوي عليه حيال تمثلاتها المتأثرة بسيولة الأحداث والخطابات الإعلامية المتقاطعة مع ذلك الوعي المشوش، هو أن تكون حاضنة بيئية، منتجة لما هو أكثر خطورة من داعش، وباستمرار.
وهذا ما سيردنا بالضرورة إلى حقيقة مفادها أن غياب ذلك الوعي الضروري بنظم إدراك معرفية للذات والعالم، مهما كانت أسبابه، سيظل الحاكم لردود أفعال تلك المجتمعات، وتحولاتها نحو عدمية مفخخة بأكثر من تأويل، كالعدمية الطهورية التي تعتنقها داعش.
واليوم، تواجه المنطقة العربية انفجاراً عنيفاً لخزين متراكم من ذلك الوعي المشوش، وما يضمره من تخلف؛ حين كشفت مفاعيل الربيع العربي وتحولاته القلقة عن المسافة الهائلة بين مهمة إسقاط الديكتاتور وتصفية الديكتاتورية التي هي إحدى أسوأ تجليات الاستبداد ضمن منظوماته وأقنعته المتعددة في المنطقة العربية.
ربما يردنا هذا الوضع المتأخر في منطقتنا عن راهنية العالم الحديث، وبديهياته في المعارف والحقوق، إلى حالة من الاستثناء، طالما استندت إليها أطروحات استشراقية مبتذلة (بيرناند لويس نموذجاً)، لتأكيد دعوى الاستعصاء التاريخي في هذه المنطقة عن قابلية الاندراج في مشروع الحداثة.
وإذ يبدو ذلك الاستعصاء ظناً ظاهرياً محتملاً في ظل انفجاراتٍ يشهدها هذا الجزء من العالم المسمى عربياً؛ فإن فضاء الصيرورة التاريخية لذلك الربيع من ناحية، واندراج العرب تحت الشروط البشرية لحركة التاريخ من ناحية أخرى، يشككان بتلك المقولة (العنصرية) حيال استعصاء المنطقة العربية عن الاندماج في العالم الحديث.
لكن، أخطر ما يدل عليه الوضع الكارثي للمسلمين برمته وموقفهم الصامت أمام العالم، في ظل هذا التوحش الذي تختطف فيه داعش تأويلاً مدمراً ومريضاً للإسلام؛ هو أن هذا الذي يجري بين أيديهم من أهوال داعش وجرائمه؛ في حقيقته: (إهانة للمسلمين) أمام العالم، بحسب ياسين الحاج صالح. وإذا ما بدا ذلك صحيحاً، وهو صحيح بطبيعة الحال، فإن ما ينتظر هذا الجزء من العالم المسمى عربياً من أهوال المستقبل، ومما هو أخطر من داعش، سيكون قابلاً للتخلق والنشوء والانتشار فيما بعد.
لن يعدو أن يحقق التحالف الدولي، حال نجاحه في القضاء على داعش، سوى تسكين مؤقت للعنف، من دون أن يكون قادراً على تحقيق المهمة الأكبر؛ أي اقتلاع جذور العنف الذي تنتجه، وتعيد إنتاجه بنيات التخلف، ونظم إدراكها في الواقع العربي، وهو واقع تشتغل على إبقائه وتثبيته منظومة الدولة العربية المتهافتة.
بعبارة أخرى، ما تتوهمه منظومة الدولة العربية في خطابها الإعلامي، وما يوحي به ذلك الخطاب من براءة مزعومة عن مسؤولية أولى وأساسية، مع المجتمع العربي، حيال إفراز بيئات حاضنةٍ، أو متسامحة مع هذا الجنون الداعشي الذي تعيش فيه المنطقة العربية، هو تزييف دال على المثل العربي السائر (رمتني بدائها وانسلت).
وبالجملة، في حال غياب تصفيةٍ معرفية لأيدولوجيات الإسلام السياسي من ناحية، ومواجهة وكشف زيف الدور الذي تلعبه منظومة الدولة العربية في إنتاج هذا الواقع؛ لن تفيد المعالجات العسكرية التي يقوم بها الغرب، بل ستزيد الطين بلة، ما دام ذلك الواقع قائماً، مما يعني بالضرورة: القابلية لإنتاج ما هو أخطر من داعش وأخواتها.