04 مايو 2017
عقيدة وستفاليا أو مأزق العالم الحديث
ثمّة سجال عمّمته قراءات ناقصة لهوية الوطن والدين في المنطقة العربية. وبدا، بفعل مؤثرات الحداثة السياسية التي انتظمت العالم وشكلت صورته، كما لو أنه جدال عقيم، يتردد باستمرار بين تلك القراءات، وتتجدد موجاته على سطح الإعلام وقنواته ومواقع التواصل الاجتماعي، لتعيده، باستمرار، سجالاً نسقياً، وبلا طائل تقريباً؛ تحدّده أحياناً ضرورة القطيعة بين المفهومين، وأحياناً ضرورة التواصل، من دون أن يكون في تينك الضرورتين ما يستوي علامة لهوية واضحة.
والحال، أن ما تم تأسيسه في أوطان أوروبا التي تشكلت بعد اتفاقية وستفاليا 1648م كان تسكيناً وعقلنةً للصراع الذي عطّل الحياة السياسية والإنسانية هناك، بفعل المسيحية الأوروبية، وفجَّر تناقضاتها في حروب دينية، انتهت بتصفية الإمبراطوريات الأوروبية المقدسة بعد حرب الثلاثين عاماً، وبناء أوطان جديدة على هويات قومية، قامت وفق محددات الأرض واللغة والعرق.
كان ذلك، في جزء أصيل منه، بمثابة تحويل جذري لدائرة اهتمام الفضاء العام للفرد من الدين إلى الوطن، ومن الإيمان إلى المواطنة، أصبح بموجبها المؤمن مواطناً، والوطن ديناً بالمعنى الدهراني الذي كان يحله الدين سابقاً. ويمكن القول، أيضاً؛ أن اختراع الأوطان في عقيدة وستفاليا كان حلاً جوهرياً لمسار معقد عطلت به المسيحية الأوروبية مطلق الحياة الإنسانية قروناً؛ حين عمّمت المقدس، أو حين مدت ما توهمته مقدساً، في الحقيقة، إلى مختلف جوانب الحياة التاريخية السائلة، وحتى جزئياتها الطبيعية الصغيرة.
أصبح العالم، بعد ذلك التطور الجذري في مسار تاريخ أوروبا، بمثابة اختبار لإعادة تجريب للتأسيسات الوطنية الكبرى التي شهدتها أوروبا تجريباً أوتوماتيكياً، أفرزته مفاعيل التوسع الإمبراطوري للحركة الاستعمارية الأوروبية في القرون الثلاثة التي تلت اتفاقية وستفاليا، وفي القرن العشرين، حين تشكلت صورة العالم الحديث سياسياً على غرار التشكيل الذي صنعته أوروبا لمكوناتها السياسية في وستفاليا العام 1648، بيد أن ما بدا حلَّاً لأوروبا حيال معضلتها مع المسيحية الأوروبية، وأفضى بها إلى "أوطان وستفاليا" انعكس مأزقاً، بفعل التخلف، في المنطقة العربية التي خضعت للتقسيم السياسي الذي فرضته أوروبا في القرن العشرين إلى أوطان حديثة، قسمت الوحدة الجغرافية للمنطقة العربية (وهو ما جرى كذلك للمنطقة
الإسلامية)، وحاولت أن تحل محل التجربة التاريخية للإسلام في إدارة الشأن العام على غرار التجربة الأوروبية الحديثة. بطبيعة الحال، لا نحاول تثبيت صورة المأزق الذي طالما صوّرته أدبيات الإسلام السياسي، كما لو أنه مأزق نسقي مقيم، حيال ذلك الذي جرى في القرن العشرين للمنطقة العربية، مع نشوء الدولة العربية الحديثة، لتجعل من تثبت ذلك المأزق وما فيه من مفارقة مسوغاً للقبول بدعاويها السياسوية حول الدعوة "تطبيق الشريعة" (تلك التي شهد منها السودان عينة آلت به إلى الانقسام والحرب الأهلية والفساد)، لكننا نحاول القول إن ذلك الجدل الذي تضخه قابليات التناقض في الذهنية العربية جزء من مشكلات التخلف الذي عجزت معها تلك الذهنية، حتى الآن، عن تسكين الجدل العقيم والمؤذي لطبيعة العلاقة بين الدين والوطن، أي حين عجزت عن إعادة تأويل تلك العلاقة تأويلاً معرفياً ينزع عنها شحنة التناقض، ويدمجها في مسار عقلاني منتج للمعنى، للدين أو للوطن.
بيد أن الذي يعوّم الصراع، ويضخ فيه حدوداً قصوى من التوتر؛ إلى جانب شرط التخلف في تلك الذهنية العربية؛ هو مسار منطق القوى ونظم إدراك هذا العالم الذي صنعته الحداثة السياسية، ثم كرّست فيه العولمة الرأسمالية منطقها المتوحش والمستفز في مضاعفة إفقار المجتمعات، وتذويب هوياتها الخاصة بقوة السوق والإعلام، وما شكله ذلك التوحش من سيادةٍ على الدول الأضعف، وقابليتها باستمرار لارتهان قرارها السيادي للقوى الكبرى، كما هو حال الدول العربية، ما كثف استعداداً هائلاً لتسييل العنف في خطاب حركات الإسلام السياسي التي يتوسل كثير منها العنف بحجج دينية على ما فعلت القاعدة، وما يفعله داعش اليوم.
وهكذا؛ إذ يجر العنف إلى ردود فعله الضرورية في مواجهات القوى الكبرى في الغرب للتنظيمات الإرهابية العدمية، كداعش، على جرائمها الإرهابية، مثل جريمة أحداث باريس؛ يصبح الفضاء العام لفهم أو محاولة فهم إشكاليات المأزق الذي تعيشه المنطقة العربية ومنطقه، وما فيه من عنف عدمي، والشروط التي تعيد إنتاجه باستمرار، خارج سياق التفكير العقلاني الذي يمكننا أن نجد فيه كثيراً من مفاتيح انفراج الأزمة، بعيداً عن ردود الأفعال.
إن عقيدة وستفاليا، بوصفها نظاماً لإدراك العالم، يقوم على منظومة الأوطان، أصبحت اليوم بفعل ثورة المعلوماتية والاتصال وظاهرة العولمة أكثر هشاشةً حيال فاعلية القانون الدولي الذي هو أضعف حلقاتها، والذي طالما ظل عاجزاً عن تفعيل مجال ضغط أخلاقي للقوة المعنوية، تنتصر للحق والعدل الإنِسانيَين، بعيداً عن منطق الحدود الوطنية، من ناحية، ومنطق القوة المادية والمصلحة الملموسة المتصلة بها من ناحية ثانية. هكذا في ظل هذه الشروط النسقية لمنطق اتفاقية وستفاليا وعقيدتها لن يبدو ثمة أفق لبناء ذمة أخلاقية ملزمة للقوى الكبرى خارج مصالحها، كما دعا إلى ذلك فلاسفة وكتاب كبار، تشومسكي وإدوارد سعيد مثلاً، فنعتوا "منشقين".
والحال، أن ما تم تأسيسه في أوطان أوروبا التي تشكلت بعد اتفاقية وستفاليا 1648م كان تسكيناً وعقلنةً للصراع الذي عطّل الحياة السياسية والإنسانية هناك، بفعل المسيحية الأوروبية، وفجَّر تناقضاتها في حروب دينية، انتهت بتصفية الإمبراطوريات الأوروبية المقدسة بعد حرب الثلاثين عاماً، وبناء أوطان جديدة على هويات قومية، قامت وفق محددات الأرض واللغة والعرق.
كان ذلك، في جزء أصيل منه، بمثابة تحويل جذري لدائرة اهتمام الفضاء العام للفرد من الدين إلى الوطن، ومن الإيمان إلى المواطنة، أصبح بموجبها المؤمن مواطناً، والوطن ديناً بالمعنى الدهراني الذي كان يحله الدين سابقاً. ويمكن القول، أيضاً؛ أن اختراع الأوطان في عقيدة وستفاليا كان حلاً جوهرياً لمسار معقد عطلت به المسيحية الأوروبية مطلق الحياة الإنسانية قروناً؛ حين عمّمت المقدس، أو حين مدت ما توهمته مقدساً، في الحقيقة، إلى مختلف جوانب الحياة التاريخية السائلة، وحتى جزئياتها الطبيعية الصغيرة.
أصبح العالم، بعد ذلك التطور الجذري في مسار تاريخ أوروبا، بمثابة اختبار لإعادة تجريب للتأسيسات الوطنية الكبرى التي شهدتها أوروبا تجريباً أوتوماتيكياً، أفرزته مفاعيل التوسع الإمبراطوري للحركة الاستعمارية الأوروبية في القرون الثلاثة التي تلت اتفاقية وستفاليا، وفي القرن العشرين، حين تشكلت صورة العالم الحديث سياسياً على غرار التشكيل الذي صنعته أوروبا لمكوناتها السياسية في وستفاليا العام 1648، بيد أن ما بدا حلَّاً لأوروبا حيال معضلتها مع المسيحية الأوروبية، وأفضى بها إلى "أوطان وستفاليا" انعكس مأزقاً، بفعل التخلف، في المنطقة العربية التي خضعت للتقسيم السياسي الذي فرضته أوروبا في القرن العشرين إلى أوطان حديثة، قسمت الوحدة الجغرافية للمنطقة العربية (وهو ما جرى كذلك للمنطقة
بيد أن الذي يعوّم الصراع، ويضخ فيه حدوداً قصوى من التوتر؛ إلى جانب شرط التخلف في تلك الذهنية العربية؛ هو مسار منطق القوى ونظم إدراك هذا العالم الذي صنعته الحداثة السياسية، ثم كرّست فيه العولمة الرأسمالية منطقها المتوحش والمستفز في مضاعفة إفقار المجتمعات، وتذويب هوياتها الخاصة بقوة السوق والإعلام، وما شكله ذلك التوحش من سيادةٍ على الدول الأضعف، وقابليتها باستمرار لارتهان قرارها السيادي للقوى الكبرى، كما هو حال الدول العربية، ما كثف استعداداً هائلاً لتسييل العنف في خطاب حركات الإسلام السياسي التي يتوسل كثير منها العنف بحجج دينية على ما فعلت القاعدة، وما يفعله داعش اليوم.
وهكذا؛ إذ يجر العنف إلى ردود فعله الضرورية في مواجهات القوى الكبرى في الغرب للتنظيمات الإرهابية العدمية، كداعش، على جرائمها الإرهابية، مثل جريمة أحداث باريس؛ يصبح الفضاء العام لفهم أو محاولة فهم إشكاليات المأزق الذي تعيشه المنطقة العربية ومنطقه، وما فيه من عنف عدمي، والشروط التي تعيد إنتاجه باستمرار، خارج سياق التفكير العقلاني الذي يمكننا أن نجد فيه كثيراً من مفاتيح انفراج الأزمة، بعيداً عن ردود الأفعال.
إن عقيدة وستفاليا، بوصفها نظاماً لإدراك العالم، يقوم على منظومة الأوطان، أصبحت اليوم بفعل ثورة المعلوماتية والاتصال وظاهرة العولمة أكثر هشاشةً حيال فاعلية القانون الدولي الذي هو أضعف حلقاتها، والذي طالما ظل عاجزاً عن تفعيل مجال ضغط أخلاقي للقوة المعنوية، تنتصر للحق والعدل الإنِسانيَين، بعيداً عن منطق الحدود الوطنية، من ناحية، ومنطق القوة المادية والمصلحة الملموسة المتصلة بها من ناحية ثانية. هكذا في ظل هذه الشروط النسقية لمنطق اتفاقية وستفاليا وعقيدتها لن يبدو ثمة أفق لبناء ذمة أخلاقية ملزمة للقوى الكبرى خارج مصالحها، كما دعا إلى ذلك فلاسفة وكتاب كبار، تشومسكي وإدوارد سعيد مثلاً، فنعتوا "منشقين".