نساء صامدات في جنوب لبنان

08 مارس 2024
تودعن الشهداء (أوليفر مارسدين/ Getty)
+ الخط -

لا خيار أمام النساء اللواتي اخترن البقاء في جنوب لبنان غير الصمود في وجه قصف الاحتلال اليومي، ومحاولة دعم أفراد عائلاتهن ومساندتهم، بحسب ما يؤكدن لـ"العربي الجديد" في اليوم العالمي للمرأة.

لا تأبه اللبنانيات في جنوب البلاد لما تشهده القرى والمناطق الحدودية مع فلسطين المحتلة من قصفٍ يومي وغارات إسرائيلية عنيفة، بل يتسلّحن بالأمل. وفي الوقت الذي يُحتَفل فيه اليوم، باليوم العالمي للمرأة، تتّشح المرأة الجنوبية بثوب الحداد على أطفال وشباب قضوا تحت نيران القذائف والمسيّرات متمسّكات بإرادة البقاء والتشبّث بالأرض من منطلق إيمانها بأنها عنوان الحياة والصمود.
وشهدت قرى لبنانية حدودية موجات نزوح لا يُستهان بها تجاوزت المائة ألف مهجر، وبقيت الحياة شبه طبيعية في القرى والمناطق الجنوبية الأبعد نسبيّاً عن الحدود، باعتبار أنها أكثر أمناً وليست ضمن قواعد الاشتباك، إلا أن الجنوبيات لم يتوقفن عن نشر روح  العزيمة والإصرار وسط عائلاتهنّ ومجتمعاتهنّ، في محاولة لاختراق جدار الرعب وهاجس الحرب المرتقبة منذ بدء الإبادة الجماعية في غزة. 

عنوان الصمود

تواصل هبة مكة، وهي أم لولدين، عملها عن بعد من منزلها الكائن في بلدة حبوش الجنوبية. تقول لـ "العربي الجديد": "كنت أسكن مع ولديّ في العاصمة بيروت، لكن مع بدء جائحة كورونا، قرّرتُ العودة إلى الجنوب كي لا أترك والدتي وحدها، إذ إن جميع إخوتي خارج البلاد. لم أحبذ فكرة السفر رغم توفر الخيار، بل فضّلتُ كوالدتي التمسك بالأرض والوطن والجذور. وينتابني هذه الفترة الشعور بأن ترك الجنوب هو بمثابة التخلي عن ولد، خصوصاً في ظل ما تشهده غزة، علماً أنني سبق أن عشتُ الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 والحروب المختلفة التي مرّت على لبنان منذ آخر السبعينيات حتى اليوم، كما أن الأمنية الوحيدة لوالدي قبل وفاته منذ عشر سنوات كانت أن نعود ونعيش في أرض الجنوب ونبقى صامدين، كما كان هو تماماً".
بحسرةٍ، تعبّر هبة عن الخوف الشديد الذي ينتاب ابنتها (9 سنوات) جراء القصف والغارات الإسرائيلية، مردّدةً الوعد الذي طلبته منها قبل ذهابها إلى المدرسة: "ماما بليز (رجاء)، إن حصل أي شيء ولو بسيط، تعالي لاصطحابي من المدرسة". تتابع: "أصبحت المسألة أكثر تعقيداً لطفلتي التي تتمنى لو أنها اليوم مع والدها المقيم خارج البلاد. أما ابني (16 عاماً) فارتأى البقاء في بيروت برفقة جدته (والدة أبيه). تأثرت حياتنا على الصعد كلها. أولادنا لم يكونوا يعرفون الخوف، ولم نكن نتخيل أن يفتقدوا حقهم في الهدوء والحياة الكريمة والتعلم وتطوير الذات، كما أن عملي يتأثر عندما تنقطع شبكة الاتصالات والإنترنت، بالإضافة إلى ما يصيبني أحياناً من توتر وفقدان التركيز. ليس من السهل أن تكوني امرأة عاملة من قلب الجنوب تحت أصوات القصف والدمار.

وعلى الرغم من أن بلدتنا بعيدة قليلاً عن الحدود، لكننا نسمع أصوات القصف والغارات الجوية، وتصبح الحياة شبه معدومة بعد الظهر، إذ يدفعنا القلق إلى شراء حاجاتنا صباحاً ثم البقاء في المنزل. المواطنون مرعوبون من تكرار سيناريو غزة في الجنوب، غير أنّ ما يطمئننا نوعاً ما أن بإمكاننا النزوح في حال تطور الأحداث".
وتختم هبة حديثها قائلة: "لطالما عُرفت المرأة الجنوبية بصمودها ودورها الأساسي في المقاومة والنضال لما تقدمه من رعاية ودعم للمقاومين ومن اهتمام بالأرض والبيت، بالإضافة إلى إعداد الطعام والمستلزمات الحيوية التي تعزز مقومات البقاء. ولا شك أن المرأة أساس المجتمع بكامل مكوناته، فهي عنوان الصمود كونها الأم التي تلد المجاهدين، وهي الزوجة والأخت والابنة والإنسانة التي تعطي الدعم المعنوي والعاطفي وتمنح الحب والحنان وتمسح دموع الحزن على فقدان الشهداء من الأطفال والشباب والكبار، في رسالة تجسد صلابتها ووفاءها للجنوب والأرض والقضية".
من جهتها، تأمل المعلمة رشا حجازي أن "تبقى المرأة الجنوبية بهذه الهمّة والعزيمة، كي تبقى مصدر قوة وطاقة لأولادها، ليتمكنوا من الصمود وتحمّل التحديات". تضيف لـ "العربي الجديد": "لم نترك منزلنا في بلدة مجدل سلم الجنوبية، علماً أنها تُعتبر خطّاً ثانياً في المواجهات. وعلى الرغم من سماعنا أصوات القذائف والغارات الجوية، وتعرُّضنا لضربات قريبة أحياناً،  قررت البقاء. يكفي أننا هجّرنا تربويّاً بعد نقل مدرستنا من بلدة حولا إلى بلدة شقرا، مع اعتماد التعليم الحضوري للبعض والأونلاين للبعض الآخر".

خلال توديع أحد الشهداء في مدينة النبطية (أوليفر مارسدين/ فرانس برس)
خلال تشييع أحد الشهداء في مدينة النبطية (أوليفر مارسدين/ فرانس برس)

رشا، الأم لخمسة أولاد، ترجو "ألا يتأزم الوضع أكثر، إذ ليس من السهل أن يترك المرء بيته وأرضه ومكان عمله قسرياً. ونرى بوضوح معاناة النازحين ومدى تعلقهم بأرضهم وأملهم بالعودة إليها، اليوم قبل الغد، وهو شعور يتغلب على قرار الهجرة، كما نتطلّع أن تحلّ فرحة النصر على أطفال غزة ولبنان وأهل الجنوب مع حلول شهر رمضان المبارك، وأن يتكلل الصمود بعودة كل نازح إلى أرضه".

كفاح

أما منتهى موسى حسين التي استشهد شقيقها جراء قصف نفذته مسيّرة إسرائيلية عند أذان المغرب في ذلك اليوم المشؤوم، فتروي بغصةٍ كيف حاول شقيقها إنقاذها برفقة أولادها الثلاثة، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. وتقول لـ "العربي الجديد": "بدأ الطيران الإسرائيلي قصف المنطقة حولنا، غير أن آخر قذيفة أصابت شرفة منزلنا حيث كنا نجلس. استشهد أخي أمام المنزل بعدما نزف بشدة، وأصبتُ بدوري في كتفي ورقبتي، في حين أصيبت ابنتي في كبدها وسارعتُ لإنقاذها بما أملك من مهارات في الإسعافات الأولية، فتمكنت من إيقاف نزيفها".
تتحدث حسين عن معاناتها مع مرض السرطان وآلام الظهر. تقاوم أوجاعها وتنهض صباح كل يوم لتواصل عملها في إعداد المناقيش والخبز على الصاج وجمع الأعشاب البرية، من أجل تأمين القوت اليومي لعائلتها. وتقول: "منذ بداية الحرب ونحن صامدون، فلا نيّة لي في ترك بلدتي التي ترعرعتُ فيها، هناك صوت يهمس في أعماق قلبي ويردّد على مسامعي عبارة: لا ترحلي". تضيف أن "الكثير من الأقارب والأصحاب طلبوا مني النزوح إليهم، لكنني بقيتُ صامدة وصابرة أربعة أشهر متتالية إلى حين استشهاد شقيقي، فنزحتُ من بلدة حولا إلى بلدة السلطانية، وما زلت في أرض الجنوب، ولولا الإرهاق النفسي الذي أصاب أولادي لكنت عدتُ إلى البلدة".
لم تنتهِ قصة منتهى، إذ تواصل بصمودها نسج حكاية المرأة الجنوبية المكافحة. تضيف: "المرأة في منطقتنا عبارة عن رجل وامرأة في وقت واحد. تتحمّل المسؤوليات برمّتها وتصمد رغم تعبها والضغوط الحياتية، وتتّخذ من الإنسانية رمزاً للتعامل مع أولادها والآخرين".

نصارع للبقاء

تتحدث ريما مزرعاني (أم يوسف) عن صمودها أمام القصف بدايةً، وتحت وطأة النزوح في وقت لاحق، علماً أنها لا تزال داخل محافظة الجنوب. وتقول: "تركنا منزلنا في بلدة حولا بعد التطورات العصيبة التي ألمّت بنا، ونزحنا إلى بلدة الزرارية حيث نقيم في منزل لفترة مؤقتة قبل عودة صاحبة المنزل من السفر، إذ سنضطر حينها إلى استئجار منزل آخر، علماً أن زوجي عاطل عن العمل وأنا بدوري ربّة منزل".
أم يوسف التي تحاول تدارك الوضع النفسي السيئ، تقول: "لدي أربعة أولاد وقد خسرنا المنزل ومحل زوجي وكل شيء، لكن أكثر ما يعذبني هو عدم قدرة ابني على الذهاب إلى المدرسة، واضطراره إلى متابعة الدروس عن بُعد، ما سبّب تدنّيَ مستواه التعليمي، كما أنني أصارع للبقاء قوية أمام أفراد عائلتي وبثّ الأمل في نفوسهم بأن الغد سيكون أفضل".

المساهمون