تعمد العائلات الغزية إلى تقسيم المهام في ما بينها يومياً للبقاء على قيد الحياة، وتلبية متطلباتها ولو بالحد الأدنى، وخصوصاً في مراكز الإيواء، إذ يعيش أفرادها في زمن الطوارئ ويضطرون للانتظار ساعات طويلة وحجز أدوار بشكل يومي للحصول على الخدمات الأساسية، فيقضي الغزيون معظم أوقاتهم في طوابير الانتظار.
منذ ساعات الصباح الأولى وحتى غروب الشمس، تشهد جميع مناطق مدينتي خانيونس ورفح وبعض مناطق وسط قطاع غزة ازدحاماً كبيراً، في ظل الارتفاع الكبير في أعداد النازحين من مديني غزة وشمال القطاع. يصطف الناس في طوابير لشراء الخبز من المخابز القليلة الموجودة، والتي زودت مؤخراً ببعض الدقيق من مخازن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، كما دخل القليل منه في إطار شحنات المساعدات التي دخلت القطاع عبر معبر رفح.
طوابير المياه
أصبحت طوابير الانتظار جزءاً من حياة الرجال والأطفال والنساء وبعض المسنين. هؤلاء يحتاجون للحصول على دور لشراء الخبز والماء وغيرها من الاحتياجات. لكن بعض الناس يتخلّون عن الخبز بسبب صعوبة تأمينه والانتظار الطويل في الطوابير، ويعمدون إلى تناول بعض أنواع البسكويت المتوفر، كبسكويت العجوة، هذا ما يقوله شرف دياب (43 عاماً) الذي نزح من شمال القطاع إلى مدينة خانيونس.
ويقول دياب لـ "العربي الجديد": "نذهب لتأمين الخبز كل يومين أو ثلاثة أيام. يقول البعض إنه حين نجوع، نأكل أي شيء آخر. يمكننا الكذب على معدتنا بأي شيء. الجسم لا يتحمل أن يكون من دون ماء. نشرب مياهاً ملوثة لأننا عطاش. أصعب الطوابير وأهمها هو المياه". ويوضح أنه في بعض الأحيان، تحصل شجارات على طابور المياه، إذ يحجز البعض دوراً قبل غروب الشمس، فيما لا ينام آخرون قبل تأمين المياه. ويوضح أن كل شيء في حياة النازحين أصبح تحت طائلة الانتظار والطوابير، مشيراً إلى أن بعض المسنين والمرضى الذين لا يستطيعون الوقوف في الطوابير يستعينون بأبنائهم أو أقربائهم لحجز دور.
خلال وقوفه في الطابور، يفكر دياب بالكثير من التفاصيل الصعبة في الوقت الحالي. يتذكر جيداً المرة الأولى التي شاهد فيها مسلسل التغريبة الفلسطينية الذي أنتج عام 2004، والذي يتطرق إلى الطوابير وانتظار المساعدات والماء والغذاء. لم يتخيل يوماً أنه قد يعيش تفاصيل تعكس الكارثة الفلسطينية الأسوأ. لكنه يعيش تفاصيلها اليوم.
بالإضافة إلى طابور الخبز والمياه، هناك طابور شحن الهواتف والبطاريات، الذي يعد مهماً للنازحين إذ يبقيهم على تواصل مع ما يدور حولهم، وإن كان محدوداً في ظل استمرار انقطاع التيار الكهربائي وعدم تزويد القطاع بالوقود وتأثر قطاع الاتصالات والإنترنت.
في بعض المناطق التي يزود فيها الغزيون بأسلاك لتوليد الطاقة، تنشط حركة الطوابير لشحن الهواتف والبطاريات. يبحث أحمد أبو العطا، وهو نازح من حي الشجاعية شرق مدينة غزة إلى مدينة خانيونس، عن مصادر لشحن الهاتف وبطارية صغيرة من أجل والدته، لتتمكن من التواصل مع أبنائها المتواجدين في عدد من الدول الأوروبية. لكنه يصطدم بالحاجة إلى أخذ دور للوقوف في طابور يمتد إلى خارج أحد المحال التجارية الذي يقدم صاحبه هذه الخدمة لزبائنه في مقابل شراء أي شيء من محله، هو الذي يبيع القليل من المواد التموينية والمعلبات وبعض الحلويات والبسكويت. يجد الأمر منطقياً لأن صاحب المحل كان يخبره أن توفير الكهرباء أمر شاق.
يقول أبو العطا لـ "العربي الجديد": "شحن الهواتف حالياً يحصل في مجمع ناصر الطبي في خانيونس. وقد تطول فترات الانتظار ساعتين أو ثلاث ساعات، والأسلاك متشابكة بشكل كبير. ويحصل البعض على ساعة واحد لشحن الهاتف، لكنه قد يضطر إلى البقاء ست ساعات إذا ما أراد شحن هواتف إضافية". يضيف: "أتمنى أن نصحو من هذا الكابوس، وأرى هاتفي مشحوناً بنسبة مائة في المائة".
يقيم أبو العطا في إحدى المدارس التابعة للأونروا المتواجدة في قلب سوق البلد في مدينة خانيونس، وبالقرب منه عائلات كثيرة تنتظر دورها في الحصول على الخبز، وبالتالي وصول سيارة الأونروا التي توزع الخبز عليهم. يصطف الناس في الطابور الذي يتقدمه الأطفال. ومن بين الذين يقفون في الطابور غيفارا أبو سعيد (38 عاماً) الذي نزح من حي النصر غرب مدينة غزة قبل ثلاثة أسابيع.
في بعض الأحيان، تؤمن الأونروا القليل من الطعام للنازحين في المدارس التابعة لها. وحين تأتي سيارات الوكالة، يتقدم النازحون نحوها، ثم يطلب منهم الموظفون الوقوف في طابور، وتمنح كل عائلة كمية محددة حتى يحصل الجميع على مساعدات.
ويقول أبو سعيد لـ "العربي الجديد": "أهم ثلاثة طوابير في حياتنا الآن هي طابور المياه وطابور الخبز وطابور شحن الهواتف. الحياة غريبة في غزة اليوم. في أحد الأيام، قمت بتعبئة المياه وشراء الخبز والخضار وحصلت على شحن هاتف بنسبة 70 في المائة من البطارية. عدت وأنا أشعر بسعادة وارتياح لأنني فعلت ذلك. حياتنا غريبة في غزة. نبحث عن أي شيء يهون علينا".
طابور العربات
على مقربة من مجمع ناصر الطبي، يجلس الناس عند أحد الأرصفة في طابور، وينتظرون وصول بعض العربات التي تنقل الناس إلى مخيم خانيونس الغربي وبعض المناطق الغربية مثل المواصي ومدارس الأونروا، ثم تعود لنقل آخرين. ينتظر الناس ما بين 40 دقيقة والساعة في كل مرة، كما أن غالبيتهم يحضرون إلى المستشفى للاطمئنان على ذويهم من المصابين، كحال أمينة الخطيب (50 عاماً). نزحت من حي الزيتون منذ شهر إلى مدرسة في مدينة خانيونس، وهي المدرسة الثالثة التي تنزح إليها. كانت قد نزحت بداية إلى مدارس حي الرمال ثم مخيم المغاري قبل أن تنتقل إلى مدينة خانيونس. أصيب نجلها عماد (24 عاماً) في ساقه وأجريت له عملية جراحية في مجمع ناصر الطبي. تزوره يومياً وتقدم له الطعام الذي تعده داخل مدرسة النزوح.
تقول الخطيب لـ "العربي الجديد": "أقف في ثلاثة طوابير منذ النزوح. هناك طابور الحصول على الخبز على اعتبار أن طابور النساء أسرع من طابور الرجال، ثم طابور انتظار الحصول على الأدوية داخل عيادة قريبة من المدرسة لأنني مصابة بمرض السكري، بالإضافة إلى طابور انتظار العربات. في بعض الأحيان يؤلمني ظهري. لكن يمكن تحمل ألم الجسد بالمقارنة مع الآلام الأخرى التي نواجهها من نزوح وإصابة الأبناء".
يرى كثيرون أن أصعب الانتظارات في الوقت الحالي هي لبعض المسنين والمرضى داخل مدارس الأونروا والعيادات.
واضطرت الأونروا إلى توحيد قاعدة البيانات العلاجية في الوقت الحالي، وزاد الضغط على المراكز الصحية جنوب ووسط القطاع، وبالتالي زادت أوقات الانتظار والضغط على العاملين في المراكز الصحية ضمن نطاق عمل 8 ساعات يومياً. وتشير أم أيمن عوض (52 عاماً) إلى أنها تحتاج ما لا يقل عن خمس ساعات من الانتظار لرؤية الطبيب والحصول على العلاج وذلك كل 15 يوماً.
كانت عوض تحصل على أدوية مرض السكري والضغط من عيادة مخيم جباليا بالقرب من السوق الشعبي للمخيم. لكن بعد النزوح، زارت العيادات في مدينة خانيونس مرتين وانتظرت كثيراً. وتقول لـ "العربي الجديد": "عدنا إلى الوراء كثيراً في حياتنا. نعيش التهميش والاغتراب في نكبة غزة هذا العام. هناك مشكلة في زيارة الطبيب والحصول على العلاج. لا يمكن إرسال ابني بدلاً مني للحصول على العلاج، إذ يجب أن يراني الطبيب".
نازحون إلى زيادة
نزح حوالي 1،6 ملايين شخص في مختلف أنحاء قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، بحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة. وتشير بيانات الأونروا إلى ارتفاع أعداد النازحين داخل مراكز الإيواء، وهناك ما يقرب من 813 ألف نازح يقيمون الآن في 154 منشأة تابعة للأونروا في كافة محافظات قطاع غزة، بما في ذلك في الشمال.
يتواجد حوالي 653 ألف نازح في 97 منشأة في مناطق وسط القطاع وجنوب القطاع المتمثل بمدينتيّ خانيونس ورفح. وحتى 14 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، كان ما يقرب من 160 ألف نازح يقيمون في 57 مدرسة تابعة للأونروا في منطقتي الشمال وغزة، على الرغم من المخاطر التي تحدق بهم.