أحالت سيول وادي درنة الذي لطالما كان مقصداً للزوار كمرفق سياحي بمزارعه وشلاله وسط المدينة الجبلية التي تبعد 300 كيلومتر من شرقي بنغازي، إلى مكان منكوب تغيّرت ملامحه التي يعود تاريخها إلى مئات السنين، وأيضاً معالمه الثقافية التي كانت تحتضن مواسم الشعر وعروض المسرحيات، كما جرفت سيول الوادي أضرحة الصحابة الفاتحين التي جعلت المدينة قبلة للزوار، وشهدت على عراقتها، فدمرت سوق الظلام والمسجد العتيق الذي أنشئ قبل أكثر من 400 عام.
يقسم وادي درنة المدينة الى قسم تعيش فيه غالبية سكانها الـ300 ألف، وآخر يمتد في نهايته إلى المدينة القديمة القريبة من البحر، والتي يقطنها سكان المدينة الأصليون الذين يبلغ عددهم نحو 30 ألفاً، وغالبيتهم من أسر عريقة عُرفت بممارسة التجارة والحرف المحلية، وبينهم أيضاً أدباء ومثقفون وعلماء دين.
وفي الأحياء القديمة، وبينها المغار وبومنصور والسوق القديم، يسكن مئات من العمال الأجانب من الجنسيات الأفريقية، وأيضاً عمال مصريون.
يعلّق حسين بوهمود، وهو كاتب متحدر من درنة، قائلاً: "لم تفقد المدينة أرواح أبنائها فقط الذين قضى بعضهم وفقد آخرون، بل الروح التي ميّزتها بين مدن ليبيا".
يضيف: "جرفت الفيضانات مباني المدينة ذات الطراز الأندلسي، ومنها مبنى استضاف أول عرض مسرحي في ليبيا عام 1908، وأيضاً غرفاً وقاعات تابعة له كانت تستضيف ندوات لمثقفين وأمسيات شعرية، وعروضاً للموسيقى الليبية. يعرف جميع الليبيين هذه المنشآت والمعالم البارزة في تاريخهم، ويظهرون تقديراً كبيراً لها، وإذا أعيد بناؤها بمبان حديثة ستنطق جدرانها بأن المدينة فقدت أبوتها الروحية العريقة".
ويلفت بوهمود إلى رمزية أضرحة الصحابة التي شكلت معالم مهمة في المدينة، ويقول "كانت قبورها شواهد تشير إلى احتضانها رفات مئات من أعلام المدينة في التاريخ، والآن لا أثر لها على الإطلاق".
وفي وسط وادي درنة وجنوبه تنتشر عشرات من المزارع التي كانت تشتهر بأجود أنواع الفواكه، خصوصاً الرمان والنخيل والعنب، وتتزود منها كل مدن ومناطق شرق ليبيا. وكانت جودة هذه المنتجات الزراعية تجعل التجار يحرصون على حجز محاصيلها مسبقاً من أجل نقلها إلى مناطق في غرب البلاد، لكن أكثرها أتلفته السيول الجارفة.
ويقول خيري القطعاني، أحد سكان حي باب طبرق في المدينة والذي نزح مع أسرته إلى منطقة مرتوبة المجاورة: "يهدد حجم التدمير الهائل الذي أفسد قنوات جرّ المياه من شلال الوادي إلى المزارع استمرار إنتاج ما تبقى من المزارع التي كانت غالبيتها تزرع أجود أصنافها على ضفتي الوادي، والآن لم يبقَ شيء من هذه الأشجار بعدما جرفت السيول أكثر من ربع كيلومتر من ضفتي الوادي".
ولا توفر المحاصيل الزراعية المداخيل الأساسية للمدينة التي يعتمد أهلها على التجارة بالدرجة الأولى في ظل انتشار مئات المحلات التي توفر احتياجات الناس من جهة، وتشكل من جهة أخرى مراكز لعبور بضائع قادمة من مصر تشكل المصدر الأول لتوريد البضائع إلى شرق ليبيا، سواء الخضار أو الأغذية ومواد البناء. من هنا يرى فراس الغثيي، الذي يسكن في منطقة القبة القريبة من درنة ويتواصل مع تجار في المدينة، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "نكبة درنة ستطاول مناطق أخرى شرقي البلاد التي ستواجه صعوبات كبيرة في مواصلة حركة التوريد من مصر وعبر الموانئ المهمة مثل ميناء طبرق، وذلك حتى إعادة بناء المحلات وتأهيل المنطقة".
وقد لعب سوق الظلام الأكثر شهرة في درنة دوراً كبيراً في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمدينة، وهو يمثل خليطاً بين التفاصيل المعمارية العثمانية والأندلسية، ويحتوي على نحو 90 محلاً تنوعت استخداماتها على مر السنين.
وهذه الأسواق عبارة عن أفنية مفتوحة تطل عليها محلات مع وجود البحرة (النافورة)، وتتضمن أروقة مظللة مزينة بأقواس حدوة الحصان التي تحمي الزبائن من أشعة الشمس والأمطار، وتوفر أيضاً العزل الحراري للمحلات. كما تعمل أحواض المياه (النوافير) على تلطيف الجو، في حين يلعب الفناء الوسطي دوراً في مقاومة الظروف المناخية.
وكان لافتاً استعمال أشجار الكرمة التي تسمى الدالية أو العريشة محلياً في التظليل لأن أوراقها تمنح الظل في الصيف في حين تكون عارية شتاء حيث الحاجة إلى الشمس، كما أنها مثمرة.
وصممت الأسواق بطريقة حرصت على ربطها بأهم مساجد المدينة، حيث يتصل الجامع العتيق بساحة سوق الخرازة، كما يقابل سوق الخضار جامع الدرقاوية عند المدخل الغربي للسوق. أيضاً تتصل الأسواق بأزقة أحياء سكنية.