طغى في إسرائيل، في الأسبوع الأخير تحديداً، جدل شديد بين "اليسار" الليبرالي (الصهيوني بطبيعة الحال) وما تبقى منه من جهة، والتيار القومي الديني الصهيوني المتمثل بشكل خاص بحزب البيت اليهودي، الذي يؤازره في هذا الجدل بالذات حزب الليكود واليمين الإسرائيلي بشكل عام، من جهة ثانية، وذلك على أثر استمرار التيار القومي الديني الصهيوني، عبر وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية، في تغليب أسس الهوية الدينية في الحياة الإسرائيلية العامة، عبر استغلال وزارة التربية والتعليم، من خلال جملة من الخطوات. ويأتي ذلك في موازاة استمرار صعود تأثير هذا التيار أيضاً في مختلف مناحي الحياة الإسرائيلية كالجيش والشرطة ومؤسسات الدولة المختلفة.
وقد تفجر هذا الجدل مجدداً، مطلع هذا الأسبوع، على أثر حادثتين أو خطوتين متوازيتين، تتمثلان في كشف يهودا يعري، المدقق اللغوي لكتاب المواطنة (أن نكون مواطنين في إسرائيل)، أن النسخة الجديدة للكتاب المقرر تدريسه في المرحلة الثانوية، ويعتبر الامتحان في موضوعه شرطاً لنيل شهادة التوجيهي، والتي يجري العمل عليها منذ أربع سنوات، تنطوي على معلومات غير دقيقة على الإطلاق وتشويه لوقائع تاريخية وآنية. من بين ذلك القول إن غالبية العمليات التي وقعت منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية تمت على يد فلسطينيين من الداخل، ممن يحملون المواطنة الإسرائيلية، والادعاء بأن قتل إسحاق رابين لم يكن ناتجاً من حملة التحريض التي شنّها اليمين ضده على أثر اتفاق أوسلو، ومساواة مقتله واغتيال ناشط اليسار الإسرائيلي إميل غرنتسفيغ بالأوامر التي أطلقها ديفيد بن غوريون لجنود جيش الاحتلال على سفينة عصابات الإيتسيل "ألتيلينا" بعدما رفض عناصر التنظيم تسليم سلاحهم للدولة وللجيش الإسرائيلي الوليد.
اقرأ أيضاً: نتنياهو يتجه للتصعيد ضد الانتفاضة لتحسين صورته أمام الإسرائيليين
وتزامن هذا الكشف، الذي أثار عاصفة من ردود الفعل في إسرائيل، مع إعلان وزيرة الثقافة الإسرائيلية، ميريت رجيف، عن تقديمها اقتراح قانون يربط بين الولاء للدولة وعدم مناهضة سياسات الاحتلال وبين توزيع وتخصيص التمويل المالي للمسارح والمراكز الثقافية والفنية في إسرائيل. وسبق ذلك اتخاذ وزارة التربية والتعليم قراراً في أواخر ديسمبر/كانون الأول 2015 بمنع تدريس رواية للكاتبة الإسرائيلية، دوريت رابينيان، عنوانها "السياج الحي"، تتحدث عن قصة حب بين فتاة إسرائيلية وشاب فلسطيني، بذريعة أن الرواية تشجّع "الزواج المختلط والذوبان في الشعوب الأخرى"، وهو ما ترفضه التعاليم الدينية اليهودية. وجاء القرار ليراكم خطوات أخرى لوزارة التعليم الإسرائيلية تتعلق بعدم الاعتراف بالتيارات اليهودية الليبرالية، مثل الإصلاحيين والمحافظين، من غير الأرثوذكس وعدم الإقرار بيهودية أفراد هذه الجماعات.
وبمعزل عن التصريحات والخطوات التي تسعى وزيرة الثقافة الإسرائيلية لاتخاذها كجزء (متفق عليه) من سياسة ترسيم حدود النشاط الثقافي والسياسي والأدبي لفلسطينيي الداخل، ومنع التمويل عنه إذا غرّد خارج سرب الإجماع الصهيوني أو أصرّ على تسمية نفسه بالأدب الفلسطيني والثقافة الفلسطينية، وليس أدبا عربيا إسرائيليا، ومع اعتماد وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية مناهج تعليمية تكرّس الهوية اليهودية وترفض الاعتراف بالرواية الفلسطينية، فإن الجدل الدائر في إسرائيل يمثّل عملياً نوعاً من اكتمال "ثورة ثقافية إسرائيلية يمينية" تتجه لصياغة فضاء قومي يهودي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالدين اليهودي، كنقيض للفضاء الإسرائيلي العام الذي فضلت الصهيونية منذ النكبة التغني به عبر تقديم الصهيونية كحركة تحرر قومي ليبرالية تنهل من الموروث اليهودي، لكن وبالأساس أيضاً، من الموروث الإنساني العالمي والفكر الليبرالي وما تمخضت عنه حركة التنوير العالمية والثورة الفرنسية.
ومع أن الخطاب القومي الديني الصهيوني كان قائماً منذ قيام إسرائيل بعد النكبة، إلا أن سيرورات إقامة الكيان الصهيوني، وكون الحركة العمالية الصهيونية، المتأثرة أصلاً بالفكر الاشتراكي العلماني في اليسار إلى جانب الحركة الصهيونية التنقيحية التي قادها زائيف جابوتينسكي وأتباعه من بعده، اعتمدت هي الأخرى على الخطاب الليبرالي الاقتصادي العلماني، فقد ظل بقاء التيار الديني الصهيوني محدوداً لعشرات السنين، ولم يكن له تأثير يُذكر في الحياة العامة في إسرائيل، فكم بالحري في الحياة الثقافية والتعليمية. وانحصر تأثيره في داخل المجتمع الديني الصهيوني حتى فوز الليكود في الانتخابات النيابية في العام 1977. في حينه، تغيرت النظرة الإسرائيلية العامة لهذا الجمهور مع إطلاق حكومات الليكود وبشكل متعاظم لحركة الاستيطان في الضفة الغربية، وإن كانت جذورها بدأت في عهد حكومة إسحاق رابين الأولى بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول من العام 1973.
يمكن القول إن بوادر التغيير الثقافي، لجهة تغليب البعد اليهودي بمفهومه الديني، بعد ما كان بيغن نفسه، الذي عرف بأنه خطيب ديماغوغي وكارزماتي، يركز على البعد القومي الليبرالي والعلماني، بدأت عملياً وأخذت أول تصريح لها من اليمين العلماني في الانتخابات لرئاسة الحكومة التي أعقبت اغتيال رابين. يومها ضبطت وسائل الإعلام بنيامين نتنياهو، وهو يهمس في أذن الحاخام الصوفي العجوز، الرابي كدوري، أن رجال اليسار نسوا كيف يكون اليهودي، وتبعت ذلك حملة إعلامية خلال الانتخابات قادتها حركة حباد الحسيدية "الأصلية" تحت شعار "نتنياهو جيد لليهود". ودفع ذلك بشمعون بيريز، بعد خسارته الانتخابات مقابل نتنياهو في العام 1996، إلى القول إن "عجوزين بسوالف ولحى طويلة من القرون الوسطى جعلاه يخسر الانتخابات"، في إشارة إلى مواقف كل من الراب كدوري والحاخام الأكبر لليهود الشرقيين عوفاديا يوسف الزعيم التاريخي لحركة شاس الحريدية.
وقد استفاد التيار الديني الصهيوني، منذ ذلك الوقت، وفي ظل حكومات اليمين المتتابعة، بما فيها حكومات أرييل شارون وإيهود أولمرت، من اعتماد اليمين العلماني (الليكود وغيره) على مخزونه البشري ودوافعه الدينية الخلاصية (كما عبرت عنها حركة غوش إيمونيم الاستيطانية) في استيطان كل شبر وكل بقعة أرض في الضفة الغربية والقدس المحتلتين. وقد وظّف اليمين "العلماني"، الذي بدأ أبناء التيار الصهيوني الديني يتغلغلون في صفوفه والوصول إلى مراكز أحزابه كوسيلة وأداة للتأثير، حركة الاستيطان الدينية ورعاها في توفير شرعية "تاريخية ودينية" لبرنامجه السياسي ورفض إنهاء الاحتلال، نظراً لافتقاره إلى مخزون بشري كبير على استعداد للانتقال للعيش في المستوطنات.
ومثلما زاد عدد أبناء التيار الديني الصهيوني في مراكز أحزاب اليمين، فإن أقطابا علمانيين في اليمين الإسرائيلي بدأوا بإظهار ارتباطهم بالدين وبالحرص على "المحافظة على أنماط حياة دينية". وبرز من بين هؤلاء، إلى جانب نتنياهو الذي يفاخر بدروس التوراة في بيته، وزير التربية والتعليم السابق (من الليكود) غدعون ساعر، الذي كان أول وزير تربية وتعليم إسرائيلي يقر برامج رحلات مدرسية إلى "مدينة الآباء" أي مدينة الخليل المحتلة. وهو أيضاً من شكل لجنة الصياغة لكتاب جديد للمدنيات (المواطنة)، موضوع الجدل القائم اليوم منذ العام 2011، ليعكس الكتاب الجديد الروح اليهودية والقيم اليهودية، بشكل يفوق القيم الإنسانية والتيارات الفكرية العالمية.
خلاصة القول، إن الجدل القائم حالياً، لا يدور بالضرورة بفعل رفض اليسار و"الأطراف الليبرالية" في إسرائيل للمضامين العنصرية والتحريضية ضد فلسطيني الداخل، وتطعيم التعليم الإسرائيلي بمضامين يهودية فحسب بل هو يعكس أيضاً رفض الصهيونية التقليدية لسرقة أساطير بناء الدولة منها، ومساواة جريمة قتل رمزها الأخير، "رابين" بإغراق سفينة "الإيتسيل" على يد بن غوريون، بشكل يجرّم بن غوريون ومعسكره، مثلما يجرّم اغتيال رابين معسكر اليمين وجمهور التيار الديني الصهيوني، ويخلق مساواة في اعتماد العنف لدى اليسار منذ إقامة إسرائيل، وعند اليمين مع اغتيال رابين. وهو ما قد يوفر الشرعية لأجيال مقبلة لاعتماد العنف والقتل والاغتيال السياسي بحق من يخالفها الرأي، إذ يحدد مثلاً منهاج الكتاب الجديد أن العلمانيين اليهود يفتقرون لأي إيمان ديني وبعضهم ملحدون والبعض الآخر بسبب التشكيك بوجود الرب في دولة يهودية تقوم أصلاً على الوعد الرباني لبني إسٍرائيل.
اقرأ أيضاً الاعتداء على كنائس فلسطين: سياسة إسرائيلية منذ 1948
اقرأ أيضاً: نتنياهو يتجه للتصعيد ضد الانتفاضة لتحسين صورته أمام الإسرائيليين
وتزامن هذا الكشف، الذي أثار عاصفة من ردود الفعل في إسرائيل، مع إعلان وزيرة الثقافة الإسرائيلية، ميريت رجيف، عن تقديمها اقتراح قانون يربط بين الولاء للدولة وعدم مناهضة سياسات الاحتلال وبين توزيع وتخصيص التمويل المالي للمسارح والمراكز الثقافية والفنية في إسرائيل. وسبق ذلك اتخاذ وزارة التربية والتعليم قراراً في أواخر ديسمبر/كانون الأول 2015 بمنع تدريس رواية للكاتبة الإسرائيلية، دوريت رابينيان، عنوانها "السياج الحي"، تتحدث عن قصة حب بين فتاة إسرائيلية وشاب فلسطيني، بذريعة أن الرواية تشجّع "الزواج المختلط والذوبان في الشعوب الأخرى"، وهو ما ترفضه التعاليم الدينية اليهودية. وجاء القرار ليراكم خطوات أخرى لوزارة التعليم الإسرائيلية تتعلق بعدم الاعتراف بالتيارات اليهودية الليبرالية، مثل الإصلاحيين والمحافظين، من غير الأرثوذكس وعدم الإقرار بيهودية أفراد هذه الجماعات.
ومع أن الخطاب القومي الديني الصهيوني كان قائماً منذ قيام إسرائيل بعد النكبة، إلا أن سيرورات إقامة الكيان الصهيوني، وكون الحركة العمالية الصهيونية، المتأثرة أصلاً بالفكر الاشتراكي العلماني في اليسار إلى جانب الحركة الصهيونية التنقيحية التي قادها زائيف جابوتينسكي وأتباعه من بعده، اعتمدت هي الأخرى على الخطاب الليبرالي الاقتصادي العلماني، فقد ظل بقاء التيار الديني الصهيوني محدوداً لعشرات السنين، ولم يكن له تأثير يُذكر في الحياة العامة في إسرائيل، فكم بالحري في الحياة الثقافية والتعليمية. وانحصر تأثيره في داخل المجتمع الديني الصهيوني حتى فوز الليكود في الانتخابات النيابية في العام 1977. في حينه، تغيرت النظرة الإسرائيلية العامة لهذا الجمهور مع إطلاق حكومات الليكود وبشكل متعاظم لحركة الاستيطان في الضفة الغربية، وإن كانت جذورها بدأت في عهد حكومة إسحاق رابين الأولى بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول من العام 1973.
يمكن القول إن بوادر التغيير الثقافي، لجهة تغليب البعد اليهودي بمفهومه الديني، بعد ما كان بيغن نفسه، الذي عرف بأنه خطيب ديماغوغي وكارزماتي، يركز على البعد القومي الليبرالي والعلماني، بدأت عملياً وأخذت أول تصريح لها من اليمين العلماني في الانتخابات لرئاسة الحكومة التي أعقبت اغتيال رابين. يومها ضبطت وسائل الإعلام بنيامين نتنياهو، وهو يهمس في أذن الحاخام الصوفي العجوز، الرابي كدوري، أن رجال اليسار نسوا كيف يكون اليهودي، وتبعت ذلك حملة إعلامية خلال الانتخابات قادتها حركة حباد الحسيدية "الأصلية" تحت شعار "نتنياهو جيد لليهود". ودفع ذلك بشمعون بيريز، بعد خسارته الانتخابات مقابل نتنياهو في العام 1996، إلى القول إن "عجوزين بسوالف ولحى طويلة من القرون الوسطى جعلاه يخسر الانتخابات"، في إشارة إلى مواقف كل من الراب كدوري والحاخام الأكبر لليهود الشرقيين عوفاديا يوسف الزعيم التاريخي لحركة شاس الحريدية.
وقد استفاد التيار الديني الصهيوني، منذ ذلك الوقت، وفي ظل حكومات اليمين المتتابعة، بما فيها حكومات أرييل شارون وإيهود أولمرت، من اعتماد اليمين العلماني (الليكود وغيره) على مخزونه البشري ودوافعه الدينية الخلاصية (كما عبرت عنها حركة غوش إيمونيم الاستيطانية) في استيطان كل شبر وكل بقعة أرض في الضفة الغربية والقدس المحتلتين. وقد وظّف اليمين "العلماني"، الذي بدأ أبناء التيار الصهيوني الديني يتغلغلون في صفوفه والوصول إلى مراكز أحزابه كوسيلة وأداة للتأثير، حركة الاستيطان الدينية ورعاها في توفير شرعية "تاريخية ودينية" لبرنامجه السياسي ورفض إنهاء الاحتلال، نظراً لافتقاره إلى مخزون بشري كبير على استعداد للانتقال للعيش في المستوطنات.
خلاصة القول، إن الجدل القائم حالياً، لا يدور بالضرورة بفعل رفض اليسار و"الأطراف الليبرالية" في إسرائيل للمضامين العنصرية والتحريضية ضد فلسطيني الداخل، وتطعيم التعليم الإسرائيلي بمضامين يهودية فحسب بل هو يعكس أيضاً رفض الصهيونية التقليدية لسرقة أساطير بناء الدولة منها، ومساواة جريمة قتل رمزها الأخير، "رابين" بإغراق سفينة "الإيتسيل" على يد بن غوريون، بشكل يجرّم بن غوريون ومعسكره، مثلما يجرّم اغتيال رابين معسكر اليمين وجمهور التيار الديني الصهيوني، ويخلق مساواة في اعتماد العنف لدى اليسار منذ إقامة إسرائيل، وعند اليمين مع اغتيال رابين. وهو ما قد يوفر الشرعية لأجيال مقبلة لاعتماد العنف والقتل والاغتيال السياسي بحق من يخالفها الرأي، إذ يحدد مثلاً منهاج الكتاب الجديد أن العلمانيين اليهود يفتقرون لأي إيمان ديني وبعضهم ملحدون والبعض الآخر بسبب التشكيك بوجود الرب في دولة يهودية تقوم أصلاً على الوعد الرباني لبني إسٍرائيل.
اقرأ أيضاً الاعتداء على كنائس فلسطين: سياسة إسرائيلية منذ 1948