بوتين ورواية محاربة "الجهاديين" سورياً: الخطر اﻷكبر داخل روسيا

15 أكتوبر 2015
لم ينهِ بوتين ملف القوقاز بعد (ديمتيري أزاروف/Getty)
+ الخط -
"لن ننتظرهم حتى يأتوا إلينا، بل سنذهب لدحرهم هناك". هكذا برر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تدخّل بلاده عسكرياً في سورية، في خطابه في 30 سبتمبر/أيلول الماضي، بغرض مواجهة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) على حد تعبيره، مع أنّ الغارات الروسية قلما تضرب "داعش" مقارنة مع استهداف تنظيمات المعارضة السورية التي تحارب "داعش. في المقابل، عكست تهديدات التنظيمات الجهادية لروسيا، التي شملت التلويح بورقة القوقاز، عدم استبعاد تأجيج المعركة في العمق الروسي، وخصوصاً بعد دعوة زعيم "جبهة النصرة"، أبو محمد الجولاني من سمّاهم "المجاهدين الأبطال في بلاد القوقاز إلى شن هجمات ضد أهداف مدنية وعسكرية في روسيا".

لقد تحوّل بوتين إلى نسخة منقّحة عن الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، لناحية إعلان "الحروب الاستباقية"، و"مطاردة" الأعداء حول العالم. غير أن رواية محاربة "المجاهدين" في سورية تبدو ضعيفة للغاية أمام الهدف الروسي الرئيسي الذي يختصر بمنع سقوط النظام السوري، وإن تطلب تحقيق هذا الهدف صياغة خطاب يرغبه الغرب حول "محاربة الارهاب".

ولا تصمد رواية محاربة "الجهاديين" في سورية أمام تفنيد وضع هؤلاء "الجهاديين" داخل روسيا، أي أن بوتين يدرك لا شك، وأكثر من غيره، أنه لو كان فعلاً يريد محاربة خطر "جهادي" ما، لكان تفرّغ لذلك الخطر الموجود بالفعل داخل بلاده، تحديداً في سبع جمهوريات شمالي القوقاز، لم يطوَ ملف "الجهاديين" فيها بعد. 

هناك، في تلك المناطق الجبلية، الممتدة بين بحري قزوين والأسود، تقع سبع جمهوريات ذات حكم ذاتي أو أقاليم، ضمن الاتحاد الروسي، وهي: جمهورية أديجيا، وكاراشاي ـ شيركيسيا، وكاباردينو ـ بالكاريا، وشمال أوسيتيا ـ ألانيا، وأنغوشيا، والشيشان، وداغستان. لم تعرف بعض تلك المناطق هدوءاً شاملاً، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في عام 1991، بل تطوّرت حروبها وتنوّعت. أما البعض الآخر، فكانت أشبه بمستنقعات حربية متناسخة، لعلّ أبرزها كانت الشيشان وداغستان، وبشكل أقلّ أنغوشيا.

في الشيشان، خاض الجيش الروسي حربين، الأولى بين عامي 1994 و1996، التي خسرها بصورة أقلّ ما يُقال عنها "إذلالية"، أما في الحرب الثانية، في عام 1999، فكان الانتصار العسكري، الذي مهّد الطريق لبوتين للوصول إلى رئاسة البلاد، بعد استقالة الرئيس الراحل بوريس يلتسين في مطلع عام 2000. وبعد مرحلة انتقالية، دامت بضع سنوات، توّج بوتين ما اعتُبر "نصراً شيشانياً"، بعد انتخاب حليفه رمضان قديروف، رئيساً لجمهورية الـ17300 كيلومتر مربع، وتسمية أغلى شارع في عاصمة الشيشان، غروزني، باسم "شارع فلاديمير بوتين".

وكما في الشيشان، كذلك في داغستان (50300 كيلومتر مربع)، يحظى بوتين بدعم رئيس البلاد، رمضان عبد اللطيبوف، كما يحظى بدعم رئيس أنغوشيا (3750 كيلومتراً مربعاً) يونس ـ بيك ييفكوروف، وتأييد يوري كوكوف، رئيس كاباردينو ـ بالكاريا (12500 كيلومتر مربع)، ومساندة رئيس أوسيتيا الشمالية ـ ألانيا (8000 كيلومتر مربع) تامرلان أغوزاروف.

اقرأ أيضاً: أوروبا العاجزة ضد روسيا

حتى الآن، يبدو كأن كل شيء على ما يرام، وأن "الأمن مستتب" في بلاد شمال القوقاز، غير أن الواقع لا يفيد بذلك، إذ تدور حروب متفرقة، بين القوات الروسية وحلفائها في كل منطقة، إلى درجة أن الرئيس الروسي السابق، رئيس الوزراء الحالي ديمتري ميدفيديف، قد أعلن في 16 أبريل/نيسان 2009، بدء عملية قمع ما سُميّ بـ"تمرّد شمال القوقاز (قطاع شمال القوقاز وفقاً للتسمية الرسمية الروسية)". العملية لا تزال مستمرة إلى اليوم، من دون ضجيج إعلامي، يتخللها أحداث إطلاق نار واغتيالات وكمائن، من دون الإشارة إليها إعلامياً بصورة وافية.

وبعد 6 سنوات ونيّف من تلك الحروب، تبدو الحصيلة مرعبة قياساً على "الصمت" الرسمي: حوالي 1046 قتيلاً و2384 جريحاً في صفوف القوات الروسية وحلفائها في الشيشان وداغستان وأنغوشيا وكاباردينو ـ بالكاريا وأوسيتيا الشمالية ـ ألانيا، في مقابل 1913 قتيلاً للمتمرّدين، للذين ينتمون إلى حوالي 35 مجموعة مسلّحة، كما أُلقي القبض على 2071 متمرّداً، وقُتل 538 مدنياً حتى عام 2013.

كل ذلك، ولم تتمكن روسيا من إنهاء هذا التمرّد، لا مباشرة ولا غير مباشرة، وعلى مساحة تمتد لـ74 ألف كيلومتر مربع تقريباً، تبدو موسكو وكأنها أمام أزمة لا تعرف النهاية، تماماً كما حصل حين تورّطت في أفغانستان (1979 ـ 1989)، تحت مسمى الاتحاد السوفييتي. خسرت موسكو الحرب هناك وانسحبت على وقع إصلاحات "الغلاسنوست" و"البيروسترويكا"، ما أدى لاحقاً إلى "وفاة" السوفييت.

وما قد يُثير الهلع حالياً، فيما لو اختار متمرّدو شمال القوقاز، الهجوم بدلاً من الدفاع، مع بعض التحرّشات الأمنية، فقد تتحوّل تلك المناطق إلى أفغانستان أخرى، خصوصاً لجهة تشابه التضاريس الجغرافية الجبلية بينهما.
ولا يحمل التورّط الروسي في سورية خبراً جيداً للكرملين، بقدر ما قد يُوصف بأنه "ضرورة" و"حرب استباقية"، فروسيا تعمل على إرساء هدنة في الشرق الأوكراني، وفقاً لاتفاقية "مينسك 2" الموقّعة في فبراير/شباط الماضي. وتنوي موسكو تجميد القتال في منطقة دونباس (التي تضمّ إقليمي دونيتسك ولوغانسك)، أقلّه في الشتاء الحالي، خصوصاً أن وزارة الدفاع الروسية حدّدت مهلة تمتد بين 3 و4 أشهر لغاراتها الجوية في سورية. ولذلك كان بوتين هادئاً، وغير متشدد، في زيارته الأخيرة إلى باريس، يوم الجمعة 2 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، ولقائه الرئيسين الفرنسي فرانسوا هولاند والأوكراني بيترو بوروشينكو والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ضمن "مجموعة النورماندي"، المخصصة للملف الأوكراني.

ورغم ذلك، عزّزت القوات الروسية تواجدها الدفاعي في أراضيها على تخوم وسط آسيا، بعد مناورات أخيرة، هدفت منها إلى الإبقاء على جهوزيتها أمام أي تحرّك محتمل لأنصار "داعش"، انطلاقاً من أوزبكستان وطاجيسكتان ضدها. فعلت روسيا كل ذلك للتفرّغ لسورية بالكامل، علماً أنه هناك يتواجد أيضاً آلاف المسلّحين الشيشانيين، مما يشير إلى احتمال غياب أي نهاية قريبة، أقله روسياً.

المرحلة التالية أمام بوتين، متعلقة بقدرته على حسم النزاع في سورية لمصلحته، وسريعاً، وهو أمر غير وارد وفقاً للروس بالذات، الذين جهّزوا أنفسهم لأشهر طويلة من النزاع. ولا يُمكن تشبيه الوضع الحالي في الساحل السوري بضمّ شبه جزيرة القرم الأوكرانية في مارس/آذار 2014. عسكرياً كان القرم ساقطاً بيد الروس، أما في الساحل السوري، فالوضع مغاير، لأن لا حدود برية لروسيا مع سورية.

وعدم القدرة على الحسم في شمال القوقاز، يفسح المجال أمام "عدم حسم" آخر في سورية، خصوصاً أنه في القوقاز، تقاتل روسيا بمفردها مع حلفاء محليين، أما في سورية، فتواجه خليطاً إقليمياً ودولياً معقّداً، قد يعرقل مخططات الكرملين، ويستجلبه إلی مستنقع قد لا يخرج منه على قيد الحياة.

اقرأ أيضاً: ثلاثة أيام على حرب روسيا سورياً: خشية مبكرة من "المستنقع"
المساهمون