تحظى القضية الفلسطينية باهتمام ومتابعة إقليمية وعالمية ضخمة على المستويين الشعبي والرسمي، كما يتجلى في حجم الفاعليات التضامنية؛ الموسمية منها والدورية؛ وكذلك في عدد التقارير والقرارات الدولية التي تتناولها. طبعا قد تعكس المتابعة العالمية قوة حضور الحقوق الفلسطينية في بعض الأحيان، في حين يعكس مدى تراجع حضورها في أحيان أخرى، إذ نشهد في بعض الفترات دلائل ظاهرة وملموسة على كل منهما، وكأن الموقف من الحقوق الفلسطينية بمثابة أمواج بحرية تتراوح بين مد وجزر. فمثلا ترافق تصاعد الدور الصهيوني في القارة الأفريقية مع توالي نجاحات حركة المقاطعة الـ BDS، وكذلك ترافقت المظاهرات الشعبية الضخمة في كل من أميركا وكندا في أيار الماضي (التضامنية مع حي الشيخ جراح وقطاع غزة) مع إعلان انضمام إسرائيل للاتحاد الأفريقي دولةً مراقبة. ثم ترافق إعلان بعض الدول عن نقل سفاراتها لدى الاحتلال الصهيوني إلى مدينة القدس مع تصاعد أصوات داعمي فلسطين داخل الحزب الديمقراطي الأميركي، وحزب العمال البريطاني.
وكذلك نرى على المستوى العربي تفاوتا في الموقف من القضية الفلسطينية أيضا، كما في تهافت التطبيع العربي، ومفاوضات ترسيم الحدود اللبنانية-الصهيونية، وكذلك في اتفاق مد خط الغاز العربي من مصر في اتجاه لبنان الذي لا يخلو من شبهة التطبيع الاقتصادي. في مقابل تصاعد الحملات الشعبية الداعمة للحقوق الفلسطينية كافة، وزيادة مظاهر رفض التطبيع شعبيا وثقافيا كما تجلى في الموقف من خطوات التطبيع الإماراتي والبحريني والمغربي والأردني. وعليه باتت مناصرة الحقوق الفلسطينية مسألة متقلبة، بين الدعم أو القطيعة المطلقة، وهو ما يذكرنا بالتحول الذي طاول عددا كبيرا من دول عدم الانحياز ودول المعسكر الاشتراكي، التي أصبح بعضها حليفا قويا للاحتلال الصهيوني بعد سنوات من مناصرة الحقوق الفلسطينية.
من كل ذلك علينا التمعن في أسباب تقلب دعم القضية والحقوق الفلسطينية، التي تنتقل بها دول من مناصرة الحقوق الفلسطينية إلى التحالف الوثيق مع الاحتلال الصهيوني، حيث توحي سلاسة هذه التحولات بثانوية تداعياته الداخلية، وكأن المجتمعات المحلية غير مكترثة لها، بل ربما راضية ومقتنعة بها. مع عدم اغفال استحالة سبر مواقف المجتمعات المحلية في الدول ذات النظم الاستبدادية، التي تحظر على مجتمعاتها المجاهرة بأي موقف سياسي لا يتوافق مع قرارات النظام المسيطر، كما في النموذج الإماراتي مثلا، كما يجب التبحر في أسباب تجرؤ النظم الاستبدادية العربية على التطبيع اليوم بعد سنوات من التوجس من إعلانه.
نتيجة شح معلومات الشعوب عن القضية والحقوق الفلسطينية أصبح تحول حكومات من دعم فلسطين وقضيتها وحقوقها إلى التحالف مع احتلال عنصري يمارس التطهير العرقي مسألة ثانوية لا تثير حفيظة الشعوب أو حتى قلقها
الأمر الذي يحيلنا إلى عوامل عديدة يهمنا منها الآن تلك المتعلقة بقصور دور الجسم السياسي الفلسطيني الرسمي والفصائلي، الذي أهمل دوره في توعية الكتل الاجتماعية بما يخص القضية وبالحقوق الفلسطينية، على اعتبار فلسطين قضية مركزية ومقدسة غير قابلة للمس أولا، وانطلاقا من ثانوية دور الشعوب والمجتمعات ثانيا. إذ حصر الجسم السياسي الفلسطيني الرسمي والفصائل دوره بنسج علاقات متينة مع الأنظمة، دون أن يستثمرها لاحقا بنشاطات تستهدف توعية الكتلة الاجتماعية بماهية القضية والحقوق الفلسطينية، من أجل خلق قاعدة شعبية مرتبطة بقضية فلسطين بمعزل عن موقف النظام المسيطر.
وعليه فلم ينجح الجسم السياسي حتى اللحظة في استثمار علاقاته الرسمية مع أي من النظم المسيطرة حول العالم، وهو ما حول قضية فلسطين في نظر قسم كبير من الجيل الحالي إلى قضية تجاذبات سياسية مفرغة من جوهرها الحقوقي والإنساني، نتيجة شح معلوماتهم عن القضية والحقوق الفلسطينية، وهو ما جعل من تحول الحكومات من دعم فلسطين وقضيتها وحقوقها إلى التحالف مع احتلال عنصري يمارس التطهير العرقي والتهجير القسري مسألة ثانوية لا تثير حفيظة الشعوب أو حتى قلقها. على الرغم من التعاطف الشعبي مع فلسطين والفلسطينيين، لكنه مجرد تعاطف يستند إلى بعد أيديولوجي أو ديني أو قومي أو اجتماعي، وبالتالي لا يمكن البناء عليه سياسيا ونضاليا. وهو ما يمكن توضيحه من خلال بعض التجارب الشخصية الراهنة والسابقة في كل من سورية وماليزيا، مثل عدم تمييز بعض السوريين بين النكبة والنكسة، رغم احتلال جزء من الأراضي السورية في النكسة ورغم شعارات النظام المسيطر الممانعة. وصولا إلى مجاهرة بعض الماليزيين المحبين والمتعاطفين مع فلسطين وشعبها باعتقادهم أن مقاطعة الاحتلال الصهيوني في ماليزيا نتيجة التجاذبات السياسية الداخلية والخارجية لا أكثر ولا أقل!! كيف لا وغالبية أو قسم كبير من الماليزيين وربما من شعوب المنطقة العربية والإسلامية أيضا، يجهلون حيثيات القضية الفلسطينية الراهنة، من تهجير شعب فلسطين قسريا إلى تطهير الفلسطينيين عرقيا. خصوصا بعد توقيع اتفاق أوسلو وتجسيد سلطة وطنية شكلية داخل جزء من فلسطين، ومن ثم تشظيها إلى سلطتين شكليتين غير قادرتين على اتخاذ أي قرار سيادي. فتلك هي العناوين الناظمة للوعي العفوي والاتكالي؛ أي وعي الغالبية؛ الذي يستسهل صوغ وعي سريع استنادا إلى النشرة الإخبارية وبعض الأحاديث الاجتماعية العابرة، والذي لم يجد من يخاطبه بلغة بسيطة وعلمية حول قضيتنا العادلة تاريخيا وراهنا ولاسيما بما يخص تحولاتها الأخيرة المربكة لأي متابع لحظي.