يترقب العالم، كاتماً أنفاسه، وصول مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، خلال الأيام القليلة المقبلة، إلى محطة زابوريجيا النووية، جنوبي أوكرانيا، وهي أكبر محطة نووية في أوروبا، لوضع آلية تمنع وقوع كارثة تشيرنوبيل ثانية في القارة العجوز. ويأتي ذلك بعد تسوية الخلافات حول مسار وفد الوكالة الذي سيزور المحطة التي تسيطر عليها روسيا منذ مارس/آذار الماضي، بعدما أصبحت زابوريجيا في قلب المعارك الدائرة بين القوات الروسية والأوكرانية.
ويهدد القصف الدائر في محيط زابوريجيا، بين القوات الروسية والأوكرانية، والذي يتبادل الطرفان الاتهامات حوله منذ مطلع يوليو/تموز الماضي، بكارثة نووية، ليس فقط في أوكرانيا، بل تهدد دولاً أوروبية عدة، ما سيؤثر على حياة ملايين السكّان، فضلاً عن الأضرار البيئية والتي ستلحق بالحياة الزراعية والحيوانية في المنطقة.
زابوريجيا تنتظر مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية
وبحسب صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، فإن مفتشي الوكالة الدولية يعتزمون القيام بزيارة طارئة إلى محطة زابوريجيا بداية الأسبوع الحالي، محضرين معهم إلى المحطة قطع غيار وأجهزة لرصد المستوى الإشعاعي وغيرها من المواد الحيوية.
وباتت زيارة الوفد إلى محطة زابوريجيا ممكنة، بعد موافقة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على مرور الوفد عبر الأراضي الخاضعة لسيطرة كييف، متراجعاً عن مطلب موسكو الأصلي بقدوم المفتشين عبر روسيا والأراضي التي تسيطر عليها شرق أوكرانيا، ما كان سيضفي شرعية دولية على الوجود الروسي في هذه المناطق.
تعد التغذية الكهربائية أمراً حيوياً وأساسياً لعمل المفاعلات، وتؤمن تبريدها، ومنع انصهار قلب المفاعل
ومع ترقب وصول وفد الوكالة، أكدت السلطات المحلية الموالية لروسيا في مقاطعة زابوريجيا، أمس الأحد، استمرار عمل المحطة النووية بشكل اعتيادي واستقرار الإشعاع عند مستوى طبيعي، معلنة في الوقت نفسه عن وضع خطة لإجلاء السكان المحليين تحسباً لوقوع أي حادثة نووية، ومحمّلة السلطات الأوكرانية المسؤولية عن مواصلة قصف المحطة منذ 18 يوليو الماضي، وفق رواية موسكو وحلفائها شرق أوكرانيا.
وكانت شركة الطاقة النووية الأوكرانية الحكومية (إنرجو أتوم)، قد أعلنت الخميس الماضي، عن انفصال المحطة عن شبكة الكهرباء الأوكرانية للمرة الأولى في تاريخها (دخلت الخدمة في عام 1984)، جرّاء حريق نجم عن قصف دمّر أحد خطوط الكهرباء. وأعلنت الشركة لاحقاً أن المحطة استأنفت إمدادات الكهرباء الجمعة، بعد إعادة توصيل اثنين من مفاعلاتها الستة بالشبكة الأوكرانية (تحتوي محطة زابوريجيا النووية على 6 مفاعلات تعمل بالماء المضغوط).
لكن هذا الحادث دقّ جرس الإنذار بقوة، لناحية الخطر النووي، في ما اعتبر إضراراً بالغاً للمحيط الأمني للمحطة. وجنّبت مولدات ديزل للطوارئ، الخميس، حصول ارتفاع في حرارة المفاعل. ولم يتمّ حتى الآن رصد أي تسرب إشعاعي في محيط المحطة. وبحسب صور لأقمار اصطناعية التقطت الخميس، فإن مركز الحريق يقع على بعد 1.6 كيلومترات فقط من المفاعل رقم 6 في المحطة، وعلى بعد 500 متر فقط من محطة تحول الطاقة الكهربائية التي تنتجها التوربينات إلى طاقة منقولة على الشبكة.
وتؤمّن المحطة، في الأوقات العادية، أكثر من خُمس الكهرباء الأوكرانية. ومنذ سيطرة القوات الروسية عليها في 4 مارس الماضي (لا يزال الكادر الذي يعمل فيها أوكرانياً)، يعمل مفاعلان في المحطة (من أصل 6) فقط على إنتاج الكهرباء. وبحسب بترو كوتين، رئيس "إنرجو أتوم" في حديث له لصحيفة "لوموند" الفرنسية يوم السبت الماضي، فإن ألف موظف من الشركة لا يزالون يعملون في المحطة، و"يعانون من ضغط نفسي صعب جداً". وتوجّه كييف اتهامات لموسكو، منذ بداية الشهر الماضي، بتحويل المحطة إلى قاعدة عسكرية.
وتشرح الصحيفة الفرنسية، في تقرير مطول لها، السبت الماضي، أن الحرب التي تشنّها روسيا قد أدّت بشكل واسع إلى تراجع مستوى الأمان في المحطة التي تمتلك التكنولوجيا ذاتها للمفاعلات الفرنسية، لافتة إلى أن الوحدات الست في زابوريجيا تتمتع بأنظمة أمان شبيهة بتلك المستخدمة في الدول الأوروبية.
وتوضح "لوموند" أنه مثلاً بعد حادثة فوكوشيما باليابان في 2011 (تضرر المفاعل النووي بعد التسونامي والذي أدى إلى انبعاث كميات كبيرة من المواد المشعة بعد انفجار داخل مبنى احتواء المفاعل بسبب زيادة الحرارة)، قامت السلطات الأوكرانية بتحسين المنشآت لمواجهة وضع قد يصل إلى فقدان كامل للتغذية الكهربائية، وذلك بتأمين 20 محرك ديزل للطوارئ.
يضم مجمع زابوريجيا مستودعاً جافاً للنفايات النووية ما يجعل المخاطر النووية مضاعفة
وتعد التغذية الكهربائية أمراً حيوياً وأساسياً لعمل المفاعلات، وتؤمّن تبريدها، ومنع انصهار قلب المفاعل. لكن محطة زابوريجيا، كما كل المحطات النووية في أوروبا، لم يتم إنشاؤها للعمل في أجواء صراع مسلح.
ويكمن الخطر الأكبر الناجم عن إصابة أحد المفاعلات بقذيفة أو صاروخ، في الضرر الذي سيلحق بإحدى طبقات الحماية الخارجية. فقد صممت المفاعلات لتتحمل قدراً معيناً من الضغط الخارجي أو الضرر، ولذلك فإن تأثير الذخيرة الحيّة ليس من العوامل التي يمكن لتلك المفاعلات مقاومتها.
وفي حالة تلف غلاف المفاعل أو نظام التبريد، فمن شبه المؤكد حدوث تسرب إشعاعي. وهناك أيضاً خطر حدوث انفجار نووي أو هيدروجيني.
وفي حال وقوع حادث في محطة زابوريجيا، فإن ذلك سيتسبب في إطلاق كميات كبيرة من نظير السيزيوم 137 المشع، وهو منتج ثانوي للانشطار النووي، والمعروف بقدرته على الانتشار لمسافات طويلة عبر الهواء. وقد يكون لانتشار نظير السيزيوم 137 عواقب وخيمة على صحة الإنسان، ويمكن أن يتسبب أيضاً في تلوث الأراضي الزراعية، ما قد يؤثر على المحاصيل لسنوات طويلة مقبلة. كما أنه، واعتمادا على الطقس واتجاه الرياح وقوتها، يمكن أن تتأثر بانتشار نظير السيزيوم 137 حتى البلدان البعيدة كثيراً.
وإلى جانب المحطة النووية نفسها، يضم مجمع زابوريجيا منذ عام 2001 مستودعاً جافاً للنفايات النووية يتسع لـ380 حاوية، ما يجعل المخاطر النووية لا تقتصر على إصابة المفاعلات في حد ذاتها.
تحذيرات من كارثة نووية
يعتبر رئيس "اتحاد المنظمات المجتمعية لضحايا الإشعاع نتيجة لحادثة تشيرنوبيل وغيرها من الكوارث الإشعاعية وأفراد عائلاتهم في موسكو"، فياتشيسلاف تولسكيخ، أن زيارة وفد الوكالة الدولية إلى محطة زابوريجيا تشكل فرصة لتوثيق حقيقة تعرضها للقصف، داعياً المنظمات الدولية إلى القيام بكل ما في وسعها لمنع وقوع كارثة نووية قد تجعل مناطق شاسعة في أوروبا غير صالحة للعيش.
في حال تدمير نظم تبريد الوحدات، قد يصيب الإشعاع حسب اتجاه الرياح، أجزاء من روسيا وبيلاروسيا وأوروبا
وتولسكيخ، عمل هو نفسه على إزالة تداعيات كارثة تشيرنوبيل في ثمانينيات القرن الماضي (تشيرنوبيل تقع في شمال أوكرانيا، ووقعت الكارثة النووية عام 1986، حين كانت أوكرانيا جزءاً من الاتحاد السوفييتي)، ويعتبر في حديث مع "العربي الجديد"، أن "الوكالة الدولية للطاقة الذرية لديها فرصة حقيقية للحضور إلى محطة زابوريجيا النووية لتوثيق حقيقة تعرّض المحطة للقصف وإطلاع العالم على خطر التلوث الإشعاعي".
وبرأيه، فإن ذلك "يتطلب إرادة حسنة من موظفي الوكالة، بينما سيضمن الجانب الروسي سلامتهم". ويلفت إلى أنه "ينبغي على الجميع أن يعلموا أن العملية العسكرية ستنتهي، وستتم إعادة إعمار ما دمّر، ولكن انبعاث العناصر المشعة وإصابتها معظم الأراضي في عدد من الدول، سيجعل الحياة في تلك المناطق مستحيلة لعقود".
وحول المخاطر المتعلقة بتعرض محطة زابوريجيا للقصف، يقول: "تتكون هذه المحطة من ست وحدات توليد طاقة ومستودع للنفايات النووية. في حال تدمير نظم تبريد الوحدات، قد يصيب الإشعاع، حسب اتجاه الرياح، أجزاء من روسيا وبيلاروسيا وأوروبا وحتماً أوكرانيا نفسها".
ويضيف: "ستكون إزالة تداعيات مثل هذه الكارثة أثناء إجراء العملية العسكرية، مستحيلة. وبالتالي، سينتشر الإشعاع بصورة عشوائية، ما يعني أن العديد من المناطق وحتى الدول في أوروبا، ستصبح غير صالحة للعيش".
ويحث تولسكيخ، باسم من عملوا على إزالة تداعيات تشيرنوبيل، الوكالة الدولية للطاقة الذرية والأمم المتحدة على القيام بكل ما في وسعهما حتى لا تتحول أوروبا إلى أرض مهجورة.
وما يزيد من المخاوف البيئية في حال وقوع كارثة نووية في أوكرانيا، هو أن جمهورية أوكرانيا السوفييتية قد شهدت عام 1986 أسوأ كارثة نووية عرفها العالم بعد وقوع انفجار في أحد مفاعلات محطة تشيرنوبيل، ما تسبب في تلوث إشعاعي أكبر بمئات الأضعاف بالمقارنة مع الهجوم النووي الأميركي على مدينتَي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين (أغسطس/آب 1945) في ختام الحرب العالمية الثانية.
وجعلت كارثة تشيرنوبيل، مناطق كاملة بالقرب من الحدود الأوكرانية البيلاروسية غير صالحة للعيش حتى الآن، كما لم تسلم الدول الأوروبية من التلوث الإشعاعي بسبب اتجاه الرياح التي دفعت بالنظائر المشعة والغيوم غرباً.
كما أن الحرب الحالية في أوكرانيا تشكل سابقة عالمية لاحتدام أعمال عسكرية واسعة النطاق في بلد يعتمد بنسبة عالية على الطاقة الذرية في توليد الكهرباء، ما يزيد من صعوبة التنبؤ بتطورات الوضع الراهن وتداعياته.
ومع ذلك، يُبرئ الخبير في مركز بحوث قضايا الأمن، التابع لأكاديمية العلوم الروسية، قسطنطين بلوخين، روسيا، من الاتهامات الأوكرانية بقصف محطة زابوريجيا، معرباً عن أمله في الوقت نفسه أن تسفر زيارة وفد الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن وضع آلية لضمان الأمن النووي.
ويقول بلوخين، في حديث مع "العربي الجديد": "من الواضح أن روسيا معنية بوصول وفد الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى محطة زابوريجيا، لأنه في حال وقوع كارثة نووية، فستصبح الأراضي الخاضعة لسيطرة روسيا غير صالحة للعيش". وبرأيه، فإن "أوكرانيا تواصل قصف المحطة لتحميل موسكو المسؤولية عن أي حادثة نووية محتملة حتى تصنف الولايات المتحدة روسيا دولة راعية للإرهاب وما يترتب عليه من تداعيات".
ولا يبدي بلوخين تفاؤلاً كبيراً بسهولة وصول وفد الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى زابوريجيا. ويرى أن "هناك مشكلات عديدة متعلقة بالمرور عبر جبهة القتال، وقد تحدث استفزازات سيتم اتهام روسيا بتدبيرها". لكن الخبير في مركز بحوث قضايا الأمن يعرب عن أمله "في أن يتم في نهاية المطاف التوصل إلى اتفاق على غرار اتفاق إسطنبول لإخراج الحبوب من الموانئ الأوكرانية، ولكن لضمان الأمن النووي هذه المرة".
محطة زابوريجيا في سطور
بدأت أعمال بناء محطة زابوريجيا النووية الواقعة على ضفاف خزّان المياه كاخوفسكويه، عام 1977، وتمّ تشغيل الوحدات الأربع الأولى خلال الفترة من عام 1984 إلى عام 1987، بينما بدأت الوحدة الخامسة بإنتاج الطاقة في عام 1989، والسادسة في عام 1995، أي بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. وعلى الرغم من أن قوة كل مفاعل تبلغ جيغاوات واحداً، إلا أن المحطة لم تصل إلى الإنتاج بنسبة 100 في المائة من قوتها سوى في نهاية العام الماضي.
وتولد المحطة نحو 40 مليار كيلوواط ساعة من الكهرباء سنوياً، موفرة خُمس حاجة البلاد من الكهرباء سنوياً. وفي مارس 2015، أصبحت زابوريجيا، هي أول محطة نووية في العالم أنتجت أكثر من تريليون كيلوواط ساعة منذ تشغيل أولى وحداتها.
واستهداف محطات الطاقة النووية محظور بموجب اتفاقية جنيف. ووفقاً للبروتوكول الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1949، فإن الهجمات على السدود والخنادق ومحطات الطاقة النووية محظورة، إذا كانت الخسائر الناجمة عن تدفق المواد المشعة جسيمة الأثر على المدنيين.
وتنطبق لوائح مماثلة لتلك التي تطبق على استهداف المنشآت النووية، على الأهداف العسكرية الواقعة بالقرب من البنى التحتية الحساسة والحيوية، فمثل تلك الهجمات على أهداف مماثلة لا تعد مقبولة في الأعراف الدولية.
وطلبت أوكرانيا من المجتمع الدولي إغلاق الأجواء فوق محطة زابوريجيا، أي توفير دفاعات جوية قادرة على منع أي ضربات مباشرة للمنشأة، لكن يبدو أنه من غير المرجح أن يفرض حظر جوي فوق المنشأة لأن الدول الداعمة لأوكرانيا تخشى أن تفسر روسيا خطوة كتلك على أنها مشاركة مباشرة في الصراع.