توسع حملة الملاحقات القضائية في تونس: الجميع متّهم "حتى تثبت براءته"

21 مايو 2023
من تظاهرة سابقة في تونس (العربي الجديد)
+ الخط -

يمثل غداً الإثنين إذاعيان تونسيان بارزان، وهما إلياس الغربي وهيثم المكي، أمام القضاء بتهم تتعلق بعملهما الصحافي، وهما يقدمان واحداً من أشهر البرامج السياسية على إذاعة "موزاييك" الخاصة، المسجون مديرها العام نور الدين بوطار منذ أشهر.

وتسيطر على تونس حالة من الريبة والشك، والخوف أيضاً، بسبب توسع دائرة الاعتقالات التي طاولت الجميع، ناشطين ومدونين وصحافيين ومحامين وقضاة وسياسيين وشباباً وغيرهم، بينما لا يتوقف الرئيس قيس سعيد عن اعتبار كل أولئك وغيرهم مشاركين في مؤامرة ضده وضد دولته.

وأمس السبت، بعد عودته من القمة العربية في جدة، اجتمع قيس سعيد بوزيرة التجارة كلثوم بن رجب قزاح، ليعتبر أن "مسألة ندرة الخبز في عدد من الولايات تعود إلى سعي البعض إلى تأجيج الأوضاع الاجتماعية والعمل على افتعال الأزمات".

ويذهب الرئيس التونسي إلى التأكيد أيضاً أن "فقدان بعض المواد الأخرى أو ندرتها في بعض الجهات من البلاد، على غرار القهوة والسكر على سبيل المثال، بسبب الاحتكار والمضاربة غير المشروعة وسيطرة بعض اللوبيات على مسالك التوزيع بغاية التنكيل بالشعب".

ويعتبر قيس سعيّد أن الكل يتآمر ضده، وخصوصاً القضاء، إذا قُبض على أحدهم أو إذا أُطلق سراحه. وقبيل سفره إلى جدة الخميس، استغرب من توقيف طالبين بسبب أغنية، وعبّر عن تفاجئه الكبير من ذلك، وفسر البعض موقفه بالحملة التضامنية غير المسبوقة مع الطالبين، التي نددت في الداخل والخارج بتوقيفهما.

تسيطر على تونس حالة من الريبة والشك، والخوف أيضاً، بسبب توسع دائرة الاعتقالات التي طاولت الجميع، ناشطين ومدونين وصحافيين ومحامين وقضاة وسياسيين وشباباً وغيرهم

وقال الرئيس التونسي: ''لا أتدخل في القضاء، وليس هناك أي مبرر على الإطلاق لاعتقال طلبة وهم يستعدون لإجراء الامتحانات''. وأضاف أن "ما حصل غير مقبول"، داعياً من وصفهم بـ"القضاة الشرفاء" إلى أن "يتصدوا لمثل هذه التجاوزات"، والمجلس الأعلى للقضاة لأن "يقوم بدوره كاملاً في ضمان العدل لكل التونسيين".

ولكن قيس سعيّد نفسه لم يسمع، أو ربما تجاهل، في نفس اليوم (الخميس)، القرار الصادر عن الدائرة الجناحية بالمحكمة الابتدائية بقفصة، التي أصدرت حكماً يقضي بسجن أستاذ تعليم ثانوي لمدة شهر مع النفاذ العاجل بسبب تدوينة.

ووجهت للأستاذ تهمة "المس من هيبة الدولة والتطاول على رئيس الدولة وانتقاد سياسة الدولة"، على خلفية تدوينة نشرها على صفحته الخاصة على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك".

ولم يندد الرئيس أيضاً باعتقال الشاب محمد المزوغي، في شهر مارس/ آذار مارس الماضي، مع عدد من ناشطي حركة النهضة في باجة شمال تونس، ولا تضامن مع الشاب محمد زنطور الملاحق بسبب تدوينة أيضاً.

ولم يغضب الرئيس بسبب اعتقال الشيخ المسن الصادق شورو (71 سنة)، ليلة الجمعة.

وشورو أستاذ جامعي في الكيمياء، والرئيس الأسبق لحركة النهضة، وأحد أكثر المعتقلين مكوثاً في سجون الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، حيث قضى ما يقارب الـ20 سنة في غرف سجنية ضيقة وفي عزلة شبه تامة عن بقية المساجين، وقد أصيب بجلطتين، آخر واحدة كانت منذ أيام قليلة.

أكثر صلابة

والجمعة أيضاً، دُعي عدد من شباب وتلاميذ جرجيس إلى المثول أمام المحكمة بسبب احتجاجات سابقة بعد غرق مركب هجرة أودى بوفاة عدد من شباب الجهة في يونيو/ حزيران من العام الماضي، ولكن الرئيس لم يعترض على ذلك.

ويؤكد الناشط علي كنيس لـ"العربي الجديد" أن "الملاحقات القضائية استهدفت كدفعة أولى 5 من شباب المدينة تتراوح أعمارهم بين 16 و19 عاماً، كانوا قد شاركوا في الحراك الاجتماعي بالمنطقة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، غير أن أمنيين رفعوا ضدهم قضايا تم تحريكها هذه المدة من قبل النيابة العامة".

وعبّر كنيس عن استغرابه من "إثارة الدعوى ضد شباب انتفضوا ضد حالة التهميش الذي تعيشه المنطقة، ما تسبب في موجات هجرة غير نظامية لأبناء المنطقة، انتهى بعضهم جثثاً على سواحل المدينة".

ناشط: الملاحقات القضائية والتشديد على الحراك الاجتماعي لا يمكن أن تلجم أصوات جيل كبر وتربى في مناخ من الحريات

واعتبر المتحدث أن "الملاحقات القضائية والتشديد على الحراك الاجتماعي لا يمكن أن تلجم أصوات جيل كبر وتربى في مناخ من الحريات بعد ثورة يناير 2011". وأضاف في السياق ذاته أن "التضييق ومحاكمة النشطاء المدنيين والمشاركين في الحراك الاجتماعي يزيدانهم صلابة ويكسبانهم الخبرة في التعاطي مع مثل هذه الظروف".

والسبت، أكدت المحامية سعيدة العكرمي، في تدوينة على صفحتها في "فيسبوك"، أنها زارت المعتقل السياسي الصحبي عتيق الموقوف بالسجن المدني بالمرناقية، مشيرة إلى أنه "في إضراب عن الطعام، وقد خسر من وزنه 5 كيلوغرامات، ووجهه شاحب ويمشي ببطء وعلامات الهزال بادية عليه".

وأكدت أن "الصحبي عتيق لم يشرب طيلة أسبوع كامل سوى لتر واحد من الماء، وقد تم نقله إلى المستشفى، لكنه رفض النزول من سيارة السجن مكبل اليدين، فتم فحصه من طرف طبيبة داخل السيارة"، مؤكدة أنه "متمسك بإضرابه عن الطعام، ولن يفكه إلا في بيته أو عند الله".

وهذه نماذج معدودة من الملاحقات التي حدثت في الأيام القليلة الماضية فقط، ولكنها في الحقيقة يمكن أن تحسب بالعشرات، حتى أصبح تدخل الرئيس التونسي في القضاء وضغطه المتواصل عليه شأناً معلوماً للجميع في الداخل والخارج.

ومنذ أيام، اعتبرت منظمة العفو الدولية، في بيان على موقعها الرسمي، أن "الحكم على زعيم أكبر حزب في البلاد (راشد الغنوشي) بناءً على تصريحات علنية أدلى بها قبل عام، وفي إطار ممارسة حقه في حرية التعبير، هو مؤشر آخر على الدوافع السياسية وراء هذه المحاكمات الجارية".

قضاء "مضغوط عليه"

وأمس السبت، كان عشرات القضاة والمحامين والنشطاء التونسيين، والحقوقيين الأجانب، يتداولون في ندوة سعي السلطة لضرب استقلالية القضاء.

وعلى هامش الندوة، أكدت عضو هيئة الدفاع عن المعتقلين السياسيين، المحامية دليلة مصدق، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "أغلب قضايا الرأي والحريات بينت أن القضاء ينتظر التعليمات للإيداع أو الإفراج، ولم تعد له كلمة ولا سلطة قرار، فهو مضغوط عليه، ولكن هذا لا يبرر هذا الوضع".

وأوضحت مصدق أن "المفروض أن القضاء لا يخضع للتعليمات ولهذه السطوة التي وقعت عليه"، مضيفة: "ما يحصل يفرغ هذه السلطة وهذه المهمة من محتواها"، مشيرة إلى أن "دور لسان الدفاع وكأنه أصبح صورياً لإضفاء شرعية على المحاكمات"، مبينة أن "المرافعات ورأي القاضي والنصوص القانونية لم تعد مهمة، وما يهم هو ما تحدده السلطة التنفيذية".

من جهته، قال القاضي عفيف الجعيدي: "إن الوضع في تونس صعب، ولكن القضاء مطالب بأداء وظيفته التي هي أساساً حماية الحقوق والحريات"، مبيناً أن "القضاء ينبغي أن يؤمن أنه سلطة قائمة، ومن واجبها أن تقرر ما تراه في ما يتعلق بالملاحقات القضائية".

وأكد الجعيدي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن سلطة القضاء "يجب ألا تسمح لأي سلطة أخرى، بما في ذلك التنفيذية، بالتدخل في مجال عملها، ولكن صناعة قاض مستقل لها شروط موضوعية، وأهم هذه الشروط توفر ضمانات استقلالية القضاء".

وبين المتحدث أن "ضمان حق المواطن في محاكمة عادلة ليس مسؤولية فردية للقاضي، بل هي مسؤولية جماعية، ويتطلب من الجميع النضال من أجل حقهم في قضاء مستقل". ولفت إلى أن "هذه الوضعية تؤكد الحاجة إلى قضاء مستقل يحمي الحقوق والحريات، فلا يمكن بلوغ ذلك دون توفر ضمانات، وأيضا دون توفر وعي ونضال من القضاة ومن المجتمع، وعند ذلك لن تحصل محاكمات من أجل فكرة أو رأي، أو يتم التعسف تجاهه".

قفز نحو المجهول

بدوره، قال عضو الهيئة التنفيذية لجبهة الخلاص الوطني عمر السيفاوي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "التصعيد الحاصل ومزيد قمع الحريات يعكس القفز نحو المجهول من قبل النظام، وبدل السعي لإنقاذ البلاد التي تتجه نحو الانهيار الاقتصادي ونحو مصاعب وأزمات كبيرة تهدد السلم الاجتماعي، وعوض السعي نحو الحوار والوحدة الوطنية وجمع كل التونسيين لإنقاذ البلاد، فإن النظام يتشبث بخطاب التفريق والمس من الثوابت والرجوع إلى الوراء وضرب المؤسسات الديمقراطية".

وأضاف السيفاوي أن "هذا الأمر يجب أن ينتهي سريعاً لاستعادة الحياة الديمقراطية وتوحيد كل التونسيين نحو هذا المشروع". وأوضح أنه "يفهم من هذا التصعيد محاولة تخويف المعارضين والتضييق على العمل الحزبي وتخويف كل التونسيين للرضوخ للأمر الواقع".

ارتفاع وتيرة الاعتقالات بسبب انتقاد السلطة

من جهتها، قالت منظمات تونسية عديدة في بيان مشترك، مساء اليوم الأحد، إن وتيرة المحاكمات الجائرة والإيقافات التعسفية للنشطاء والمدونين والصحافيين والنقابيين وعموم المواطنين، ارتفعت بسبب التعبير عن آرائهم وانتقاد السلطة سواء عبر وسائل الإعلام أو من خلال التدوين على شبكة التواصل الاجتماعي "فيسبوك".

وبحسب المنظمات فإن السلطات تحقق مع النشطاء والمعتقلين "حول تدوينات أو صور أو أغان ساخرة.. تمحورت أغلب الأبحاث حول انتقاد سياسات السلطة ورموزها على غرار رئيس الجمهورية".

ومن بين المنظمات الموقعة، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والنقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، والاتحاد العام التونسي للشغل، والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات،

والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والاتحاد العام لطلبة تونس، والبوصلة، ومنظمة أنا يقظ، والهيئة الوطنية للدفاع عن الحريات والديمقراطية والأورومتوسطية للحقوق وغيرها.

وعبرت المنظمات والحركات الشبابية الموقعة على هذا البيان عن "إدانتها الشديدة لحملة الإيقافات والمحاكمات الأخيرة والتي غابت فيها أدنى معايير المحاكمة العادلة، فضلا عن أنها محاكمات للآراء والمواقف في خرق واضح للدستور والقوانين والمعاهدات الدولية".

واعتبرت أن "أغلب المحاكمات تتم بمقتضى المرسوم 54 وهو ما يثبت نوايا السلطة من خلال إصدارها هذا المرسوم والمتمثلة في توظيفه للتضييق على الحريات، وعلى رأسها حرية الرأي والصحافة والتعبير، وتسليط سيف المحاكمات على رقاب المواطنين وكل من ينتقد السلطة وسياساتها مهما كان موقعه".

وجددت المنظمات والحركات الشبابية الموقعة دعوتها "إلى السحب الفوري للمرسوم 54، ووضع حد لموجة محاكمات الرأي على غرار الإحالات الأخيرة مثل قضية الشاب أحمد زنطور، وقضية أستاذ التعليم الثانوي وجدي الجريدي، الموقوفين بسبب تدوينات عادية ناقدة للوضع العام، وقضية الناشط زكي الرحموني، وقضية الكاتب العام لنقابة أعوان وزارة الثقافة الناصر بن عمارة".

وحذرت من خطورة تغول الجهاز الأمني والرقابة التي يمارسها على الناس بتواطؤ مفضوح من القضاء.