تعتمد إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في تعاملها مع الحرب على غزة نسخة مصغرة من "دبلوماسية المكوك" التي صاغها هنري كيسنجر لاحتواء حرب أكتوبر 1973.
زيارات وجولات متلاحقة ومساومات وضغوط لاستبيان قواسم مشتركة تؤدي إلى المخارج المطلوبة. الفارق بين الحالتين، فضلاً عن اختلاف الظروف وطبيعة الحربين، أن دبلوماسية كيسنجر - المصممة لخدمة إسرائيل بالنهاية - كان لديها بوصلة دقيقة، وتعاملت مع التعنت الإسرائيلي أحياناً بحزم الدولة العظمى، وبما أتاح لها تحقيق مرادها آنذاك بوقف النار وفكّ الاشتباك.
وتبدو بوصلة مكوك جو بايدن متخبطة في أحسن الأحوال، وتتعاطى معه إسرائيل وكأنها هي الدولة العظمى في ما يتعلق بكيفية إدارة الحرب وتحديد سقفها الزمني. ولا يبدو في الأفق ما يشير إلى أن جو بايدن في وارد استخدام نفوذ موقعه لاستعادة المبادرة ووضع الحرب على غزة على مسار آخر.
وحتى الآن، قام أربعة من أركان الإدارة بتسع زيارات لإسرائيل، آخرها اليوم الأحد مع وصول وزير الدفاع لويد أوستن إلى تل أبيب للمرة الثانية. حديث المسؤولين عن هذه الجولات راوح بين "إسداء النصيحة للحليف"، وإبداء الحرص المتكرر والمملّ على "سلامة المدنيين"، وأهمية تدفق "المعونات الإنسانية" وضرورة التزام إسرائيل هذه الموجبات، لكن من دون رسم أي خط أحمر في هذا الخصوص ولا حتى التلويح به.
كل الانتهاكات كانت تُعطي ضمناً الأسباب التخفيفية تحت ستار "حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها"، ولو أن هذه النغمة قد تراجعت بعض الشيء، بعد تعاظم حجم الكارثة الإنسانية في القطاع. ومع انكشاف المزيد من جوانبها وتعالي الضجة حولها حتى داخل أميركا، وبدأت تعبيرات الضيق تتزايد، وإن بقيت في حدود التلميحات والكلام بأن الإدارة "نفد صبرها" من الإفراط في القوة الإسرائيلية وأنها "ضاقت ذرعاً بها"، إلى حد أن جو بايدن اضطر إلى الإفصاح عن انزعاجه، ولو الخجول، منها.
وعلى الأثر، تقررت زيارتا جيك سوليفان والوزير أوستن على وجه السرعة لإسرائيل، لمطالبة المسؤولين ببدء مرحلة "خفض" حدة العمليات العسكرية وكثافتها والانتقال بها نحو الاستهدافات الانتقائية "المركّزة"، لكن ما رافق وأحاط بزيارتهما يعزز الاعتقاد بأن المهمة كانت أبعد من ذلك. مطلب "خفض القصف العشوائي" لا يستدعي زيارة اثنين من كبار المسؤولين لإسرائيل. وحسب السوابق، لا يحتاج إبلاغ مثل هذا الطلب إلى أكثر من مكالمة هاتفية مع رئيس حكومتها.
والأرجح أن الغرض في مكان آخر تشير إليه مخاوف متزايدة من احتمال خروج الحرب عن ماعونها الغزاوي، فالإشارات الإسرائيلية في هذا الخصوص تتوالى في الخطاب كما في الميدان، وربما كان ذلك وراء قرار وزير الدفاع أوستن عشية سفره إلى إسرائيل، بتمديد مرابطة حاملتي الطائرات جيرالد فورد ودوايت ايزنهاور في المنطقة وحتى إشعار آخر.
وكان من المفترض أن تغادر حاملة الطائرات جيرالد فورد في منتصف الشهر الجاري. وهذه هي المرة الثانية التي يتقرر فيها تجديد إقامتها هناك، مع ما ينطوي عليه ذلك من تحسّب لتطورات غير مستبعدة، تتعلق باحتمالات توسع الحرب التي ما زالت متعثرة في غزة والتي تتزايد الشكوك حول نيات إسرائيل بفتح جبهتها الشمالية. ومثل هذا السيناريو لا تنفك الإشارة إليه من باب أن اللحظة الراهنة توفر لإسرائيل الاستقواء المباشر بالقوة الأميركية في المنطقة للدفع باتجاه التصعيد المفتوح، علّه يؤدي إلى قطع شعرة معاوية بين واشنطن وطهران، فاللحظة مناسبة لنتنياهو لتحقيق هذا الغرض الاستراتيجي.
كذلك، هناك تخوف آخر يعكسه التعثر الإسرائيلي الميداني في غزة، الذي يُشبَّه أحياناً بإخفاق القوات الأوكرانية في الهجوم المضاد الذي باشرته أوائل الصيف، وانتهى إلى المراوحة في أحسن الأحوال. ويعيد ذلك التذكير بما تردد على لسان جهات عسكرية إسرائيلية قبل الحرب على غزة عن وجود خلل في جاهزية القوات الإسرائيلية، وبما يفسر تزايد خسائرها في غزة وارتباكها، كما تبين في مقتل ثلاثة من الأسرى على يد هذه القوات، الذي أبرزته وسائل الإعلام الأميركية مع الكثير من علامات الاستفهام حول الحادثة ومدلولاتها.
وبعد شهر، تبدأ انتخابات التصفية الحزبية للمرشحين. بقاء الحرب على غزة على هذا النحو "لعدة أشهر"، كما يلوّح الإسرائيليون، احتمال يخشى الديمقراطيون من انعكاساته السلبية على وضع بايدن المهدد أصلاً. إن تخبط دبلوماسية الرئيس يفاقم صعوباته ويوسع الحرب ويزيدها تعقيداً.