بوتين يحتفل بذكرى ميلاد "ملهمه" بطرس الأكبر: أوجه الشبه والاختلاف

09 يونيو 2022
جدارية تمثل بطرس الأكبر في سانت بطرسبرغ (أولغا مالتسيفا/فرانس برس)
+ الخط -

تحتفل روسيا بالذكرى الـ350 لميلاد بطرس الأكبر "الأول" (9 يونيو/حزيران 1672 ـ 8 فبراير/شباط 1725)، القيصر الذي تحولت البلاد في عهده إلى إمبراطورية.

وبدا واضحاً حرص الرئيس فلاديمير بوتين على تنظيم احتفالات ضخمة، اليوم الخميس، بذكرى "ملهمه التاريخي" في مسقط رأسه موسكو، وأيضاً في سانت بطرسبرغ، المدينة التي خلّدت اسم القيصر وبقيت شاهدة على تأثره وإعجابه بالحضارة الأوروبية، ما دفعه إلى بناء مدينة عصرية تجمع بين الطراز العمراني لأكثر من مدينة أوروبية، شكّلت لقرون نافذة على أوروبا، وتحولت من مستنقعات وغابات إلى عاصمة للإمبراطورية الروسية حتى عام 1917.

وتحظى الاحتفالات الحالية التي بوشر التحضير لها بمرسوم رئاسي وقّع عليه بوتين في عام 2018، بأهمية خاصة، لتزامنها مع الحرب الروسية على أوكرانيا.

وفي حين استطاع سيد الكرملين الجديد أن يعيد بحر آزوف، المتفرّع من البحر الأسود، بأكمله إلى السيطرة الروسية، يتطلّع حالياً إلى مدينة أوديسا، غربي أوكرانيا، على شواطئ البحر الأسود.

لكن في المقابل، أُغلقت أبواب أوروبا في وجه وزير خارجيته سيرغي لافروف، الذي لم يتمكن من زيارة صربيا، الدولة الأقرب إثنياً ودينياً لروسيا في الشرق الأوروبي.

كما أُغلق بحر البلطيق، الذي تحوّل إلى بحيرة لحلف شمال الأطلسي، باستثناء جيبين صغيرين: الأول في سانت بطرسبرغ والثاني في إقليم كالينينغراد الروسي. وهو البحر الذي سيطر بطرس الأكبر عليه في حرب الشمال (1700 ـ 1721) بعد حروب طويلة طاحنة.

تقدير بوتين لملهمه

وفي مؤشر إلى أهمية الحدث بالنسبة لبوتين، أكد المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، يوم الخميس الماضي، أن "الرئيس لن يتجاهل هذا الحدث، لأنه يقدّر تقديراً عالياً دور بطرس الأول في تاريخ روسيا، وعرف مزايا القادة الآخرين في التاريخ الروسي".

وأضاف، في حديثٍ للصحافيين: "لا أحد يعتزم إغلاق أي شيء"، مشيراً إلى أن بوتين "خبير عميق في التاريخ". وكشفت التصريحات الرسمية أن بوتين يمكن أن يشارك في فعاليتين بهذه الذكرى في موسكو، في المركز الروسي للمعارض "في دي إن خا" في مركز المدينة، ويفتتح معرضاً عن سيرة بطرس الأكبر وإنجازاته، ويستضيف مجموعة من الشباب الرائدين في مجال الأفكار والأعمال. أما الفعالية الثانية ففي سانت بطرسبرغ.

ولا عجب في مشاركة بوتين في فعاليتين، في ظل ترويج بروباغاندا الكرملين لأوجه كبيرة من الشبه بينه وبين بطرس الأكبر. فالرجلان، بحسب كثير من إعلاميي الكرملين، فتحا مجالاً واسعاً للتغيرات والإصلاحات الاقتصادية. كما أن بوتين يسير على درب "ملهمه" في إعادة أمجاد الإمبراطورية.

وفي حوار مع الصحافيين على هامش منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي في يونيو 2019، أشار بوتين إلى الدور الكبير لبطرس الأكبر.

وفي إجابة على سؤال أحد الصحافيين الأجانب حول أهم شخصية روسية؟ قال إن "بطرس الأكبر أسس المدينة التي وُلدت فيها، وهو إصلاحي، مشهور، عظيم".

وقبل سنوات، سأل صحافي من "فايننشال تايمز" بوتين عن قادة العالم الذين التقى بهم والذين يثيرون إعجابه أكثر من غيرهم. وعلى الرغم من أن السؤال كان عن القادة الحاليين، إلا أن بوتين أجاب: "بطرس الأول". وتساءل المراسل: "لكنه مات بالفعل". ليردّ الزعيم الروسي: "سيعيش ما دامت قضيته حية، تماماً مثل قضية كل واحد منا".


تُقيم روسيا فعاليتين اليوم لتكريم بطرس الأكبر في موسكو وسانت بطرسبرغ

وُلد بطرس الأكبر في موسكو، وكان الابن الوحيد للقيصر أليكسي من زوجته الثانية ناتاليا كيريلوفنا ناريشكينا. ومنذ سن التاسعة، تنافس مع إخوته من أبيه على السلطة وخبر مكائد القصور وعانى منها طفلاً، واستفاد من نفيه بقرار من أخته الكبرى صوفيا إلى أحد الأديرة قرب موسكو، حيث يُسجن الأجانب، فاطلع على الثقافات الأوروبية، وتعلم لغات كانت عوناً له في رحلاته المستقبلية إلى العواصم الأوروبية.

وفي عام 1689 تولى قمة المسؤولية وهو في السابعة عشرة من عمره. وعلى الرغم من اشتهاره بأنه جعل من روسيا دولة ذات شأن في المجال الحربي، فقد ركز كل جهده لتحقيق إصلاحات في مجالات الإدارة والتعليم، ولم يهمل الجوانب الاقتصادية، تحديداً الصناعة والزراعة المتطورة والتجارة. وعمل على جذب العلماء والخبراء من كل أصقاع العالم إلى سانت بطرسبرغ، لتحويلها إلى عاصمة عالمية مهمة.

في المقابل، ولد فلاديمير بوتين في عام 1952 في أسرة سوفييتية عادية، عانت من تبعات الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، في المدينة التي أسسها بطرس الأكبر، والتي ظلت تعبق بذكرى عصور القياصرة الغابرة، على الرغم من تغيير اسمها مؤقتاً إلى لينينغراد، تخليداً لقائد الثورة البلشفية فلاديمير لينين.

ومع أن الفوارق جذرية في منبت وسيرة الرجلين، إلا أنهما وُلدا وصعدا في ظروف تاريخية متشابهة، فروسيا في القرن السابع عشر لم تكن في عداد البلدان الأوروبية المتطورة، بعد الغزو المغولي، وتعاني من ازدواجية الهوية بين آسيا وأوروبا، وفي اختيار التوجه بين الشرق أو الغرب، أو بناء نموذج خاص بها. 

أما بوتين فأنجز "مهمة التسلل" إلى رأس الهرم السياسي، كما عبّر في خطاب تكريمي له في مقر الاستخبارات الروسية في عام 1999، بعد انتقاله إلى منصب رئيس الحكومة، في فترة سئم فيها الروس من فوضى سنوات التسعينيات التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي (1991)، وأدت إلى تراجع روسيا في جميع المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية. 

وفي حين انتقل بطرس الأكبر من موسكو واختار بناء عاصمة جديدة في الشمال، في إشارة رمزية إلى خياراته الأوروبية، فقد سعى إلى بناء نظام إداري جديد للدولة مترامية الأطراف، بالاعتماد على موظفين بخبرات أوروبية. 

أما بوتين فقادته الأقدار إلى موسكو، وجلب لاحقاً فيما بات يُعرف بمجموعة "بيتر"، في إشارة إلى الوزراء ورؤساء الحكومات وكبار المسؤوليين الأمنيين ومديري كبريات الشركات الحكومية، مثل "غازبروم" و"روسنفت" و"روس تيخ"، المسؤولة عن الصناعات الحربية، وغيرها من الشخصيات التي تولت مسؤوليات مهمة بعد صعود بوتين إلى الحكم. 

حلم الإمبراطورية الروسية

الواضح أن حلم بناء إمبراطورية روسية قوية جمع بين الرجلين، مع ميلهما إلى الاعتماد على الجيش والأساطيل البحرية من أجل التوسع الجغرافي، الذي بدأ في حالة كل منهما نحو الجنوب.

فبطرس الأكبر وبعد دراسة الإمكانات والفوائد، قرر أن يبدأ توسعه باتجاه المياه الدافئة ومحاربة الإمبراطورية العثمانية، ونجح في السيطرة على منفذ مطلّ على بحر آزوف في معارك أتمّتها الإمبراطورة يكاترينا الثانية (1729 ـ 1796) لاحقاً.

وخاض بطرس الأكبر حروباً كثيرة شرقاً وغرباً، توّجها بالسيطرة على بحر البلطيق وأجزاء واسعة من أوكرانيا وبولندا بعد عقدين من حرب الشمال، والوصول إلى بحر قزوين.

أما بوتين فبعد سنوات من محاولة إعادة بناء الاقتصاد والتقارب مع الغرب، بدا أنه ضاق ذرعاً بنظرة الغرب لبلاده، مختاراً جورجيا ليبدأ أولى مغامراته العسكرية في عام 2008، وبعد إدراكه لحال جيشه المزري نتيجة أدائه في الحرب، قرّر إطلاق إصلاحات واسعة بكلفة تتجاوز 670 مليار دولار لتحديث الجيش وإدخال أسلحة جديدة.

وفي عام 2014، ضمّ بوتين شبه جزيرة القرم الأوكرانية وميناء سيفاستوبول فيها إلى روسيا. وانتهز الفرصة المناسبة للعودة إلى مياه البحر المتوسط الدافئة وشن عملية عسكرية في سورية في 2015، مؤسساً لوجودٍ بحري في طرطوس وقاعدة عسكرية ضخمة في حميميم.

وبعد مائة يوم من الحرب على أوكرانيا حوّل بحر آزوف إلى منطقة نفوذ روسية خالصة، ولا يزال طامحاً على ما يبدو إلى حرمان أوكرانيا من جميع منافذها البحرية على البحر الأسود، والسيطرة على أوديسا ذات الرمزية التاريخية بالنسبة للإمبراطورية الروسية.

ويشترك الرجلان في عملهما المتواصل وتنقلهما في أرجاء روسيا، واهتمامهما بالتفاصيل أثناء النقاشات في جميع المواضيع الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والعلمية.

وفي سنوات حكمه، جال بوتين على معظم المناطق، وفاجأ كثيراً من المواطنين الروس بتلبية طلباتهم المعيشية وزيارتهم في بيوتهم. واستخدم بوتين بشكل متكرر تصريحات الإمبراطور بطرس الأكبر في خطاباته.

ونصح مرؤوسيه بأن يحذوا حذوه، ويتعمقوا في جوهر الأشياء التي تبدو غير مهمة، في محاولة لإلهام السلطات المحلية بطريقة ما لحل مشاكل الإسكان والخدمات المجتمعية. وروى بوتين في أحد اللقاءات كيف أرسل بطرس الأكبر مخططاً لخزان مياه إلى بيترغوف (مقر إقامته) على الرغم من انشغاله حينها بحملة عسكرية.

أوجه الشبه والاختلاف

ومع ذلك، هناك أوجه اختلاف كثيرة وعميقة بين الرجلين، فبطرس الأكبر كان إصلاحياً بأفكار "ثورية"، وكان شديد الإعجاب بالنموذج الأوروبي، وفتح نافذة لسكان روسيا على أوروبا.

في حين أن بوتين لا يخفي اشمئزازه من التغييرات الجذرية، ويدافع عن التقاليد والقيم المحافظة. وتسببت سياسته الخارجية في اندلاع مواجهة مع الغرب أكبر مما كانت عليه خلال الحقبة السوفييتية.

وبعد جولاته في أوروبا، عمل بطرس الأكبر على سن فرمانات وقوانين تجبر الموظفين على حلق ذقونهم، وارتداء الملابس الأوروبية، ولم تقتصر التغييرات على ذلك فقد استقدم أفضل الخبراء في الإدارة والعمران لبناء مسارح، وأنشأ نظاماً تعليمياً مختلفاً، وأوفد الطلاب إلى أوروبا للاستفادة من التطور العلمي.

ومع أنه كان مدركاً لأهمية دور الكنيسة الأرثوذكسية في الوعي الروسي، إلا أن بطرس الأكبر عمل على تقليص دورها، وحوّلها إلى مؤسسة من مؤسسات الدولة، وحدّ من تدخلاتها في المجتمع.


استخدم بوتين بشكل متكرر تصريحات الإمبراطور بطرس الأكبر في خطاباته

وفي المقابل، فإن بوتين، الذي شهد انهيار بلاده وهو في ألمانيا الشرقية، عاد خائباً نتيجة اختفاء الاتحاد السوفييتي، واصفاً انهياره بـ"أكبر كارثة جيو استراتيجية" أثّرت في مسار حياته.

وحين سنحت الظروف له بتولي السلطة، باشر بعض الإصلاحات الاقتصادية والإدارية، التي ساهمت في تحسين الاقتصاد والأوضاع المعيشية، لكن هاجس العودة إلى أمجاد الإمبراطورية الغابرة، والتنشئة السوفييتية التي ظلت أفكارها تنطلق من مبدأ "قوة روسيا قبل السوفييت"، أثّرت كثيراً في خياراته بعد عام 2008، وبدأ الشقاق يتسع مع الغرب، وصولاً إلى شبه القطيعة الاقتصادية والسياسية والثقافية بعد الحرب على أوكرانيا.

وبدلاً من تقييد دور الكنيسة، عمد بوتين إلى تقويتها في المجتمع، لكنه وظّفها لمصلحته في رفع شعار "موسكو هي روما الثالثة"، المدافعة عن القيم المحافظة والتقليدية في العالم، في وجه الغرب المنحل أخلاقياً والآيل إلى السقوط.

ومن المؤكد أن التاريخ الروسي ما قبل الاتحاد السوفييتي ينقسم إلى حقبتين، ما قبل بطرس الأكبر وما بعده، نظراً لأن إصلاحاته شكّلت المنعطف التاريخي الرئيسي الذي حدد تطور البلاد على مدى قرنين بعد رحيله.

وعلى الرغم من الإجماع على دوره التاريخي المهم، فإن النقاش محتدم بين فريق "متأسف" على ضياع روسيا وفق ما كانت عليه قبل بطرس الأكبر، والثمن الباهظ للتخلي عن "نسيج" روسيا الذي تلا الإصلاحات.

ويرى هؤلاء أن إصلاحات بطرس من الأعلى أدت إلى تعزيز القنانة (مفهوم يعتبر الفلاحين من أدنى الطبقات الاجتماعية) بشكل أكبر وتأسيس العبودية الحقيقي من قبل النبلاء للفلاحين.

وبعد أكثر من ثلاثة قرون على إصلاحات بطرس الأكبر التي فتحت "النافذة" على أوروبا، يجادل الكرملين في أن سياسات بوتين أدت إلى إغلاق هذه النافذة.

ومن المفترض انتظار فترة زمنية معينة لمعرفة ما ستؤول إليه الأوضاع، بعد صمت أصوات المدافع في أوكرانيا، لإجراء تقييم حول حقبة بوتين ودوره في التاريخ الروسي.

ولكن من المؤكد أن الاختلاف بين بوتين وبطرس الأكبر كبير جداً، على الرغم من اهتمامهما بتقوية الجيش ونزعتهما للتمدد شرقاً وغرباً.

وربما يكمن الاختلاف الأساسي في أن أدوات وطرق الحرب في القرن الثامن عشر لا تصلح بالمطلق لما وصل إليه العالم اليوم، بالإضافة إلى أن بطرس الأكبر استعجل الانفتاح على أوروبا ورأى أن تغيير المجتمع من أعلى كفيل بإحداث الفارق.

في المقابل، استعجل بوتين بإعادة بناء جدران جديدة مع الغرب، وإغلاق النوافذ من دون الأخذ في الحسبان تطور المجتمع الروسي، الذي بات جزءاً من قرية كونية كبيرة بسبب تطور الاتصالات والعلاقات، ولعل الأهم عدم جهوزية روسيا علمياً وتقنياً واقتصادياً لمحاربة "الغرب الجماعي"، الذي كثر الحديث عنه في الأشهر الأخيرة للإشارة إلى أعداء روسيا.