بعدما قرّر الارتماء في ظلال اليمين، وبات طموحه مقتصرا على الانتقال من لعب دور الوسيط بين حركتيّ فتح وحماس، إلى محاولة لعب دور "الشراكة السياسيّة" في سلطة شكليّة تحت ظلّ الاحتلال، فشل اليسار الفلسطيني حتّى في تكوين قائمة انتخابيّة موحّدة لخوض الانتخابات التشريعيّة المقبلة، التي يفترض إجراؤها يوم 22 مايو/ أيار من العام الجاري.
وحدة اليسار الفلسطيني، كانت وما زالت حلماً طوباوياً لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع، لأسباب أيديولوجيّة، وتنظيميّة وسياسيّة، ترتبط في معظمها بالعامل الذاتي أكثر من ارتباطها بالعامل الموضوعي. لا بدّ من تسمية الأشياء بمسمّياتها بعيدا عن المجاملة السياسيّة.. اليسار باختصار فشل في تحقيق المشروع الثوري الذي رفع رايته يوما ما، عندما كان ينادي بتحويل العواصم إلى "هانوي العرب"!
بدءاً بالتخلّي عن نهج العنف الثوري، والقبول بقيادة الطبقة التي طالما وصفها بـ"الكمبرادور الفلسطيني"، ومن ثمّ اعتناق وهم "حلّ الدولتين"، حتى بات اليسار أبعد ما يكون عن تحقيق إمكانيّة تشكيل قيادة ثوريّة تقود الشارع الفلسطيني على أساس مبدأ الثورة المستمرّة. واليوم، يسجّل هذا اليسار فشلا آخر حتّى في إدارة اللعبة السياسيّة "السلميّة"، وفقا للقواعد ذاتها التي راكمها اليمين، ابتداء من برنامج النقاط العشر، حتّى اتّفاقيّة أوسلو المشؤومة! أسباب الفشل متعدّدة ومتراكمة، ولكنّها تنطلق من أساس نظريّ واحد، يتمثّل في البراغماتيّة البيروقراطيّة!
لعنة الستالينيّة
"العصر الذهبي" لليسار الفلسطيني، يتمثّل في مرحلة سبعينيّات القرن الماضي، عندما رفعت الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين شعار: "وراء العدوّ في كلّ مكان"، قبل أن تتخلّى عنه لاحقا، استجابة لإملاءات البيروقراطيّة الستالينيّة في موسكو من جهة، وضغوط اليمين الفلسطيني والرجعيّة العربيّة من جهة أخرى، ناهيك عن تنامي تيّار براغماتيّ داخل الجبهة نفسها، يصرّ على الاكتفاء بكونها "الفصيل الرئيسي الثاني" في منظّمة التحرير الفلسطينيّة، وينطلق من مقاربة الاتحاد السوفييتي، التي كانت تصرّ على أن مرحلة التحرّر الوطني لا بدّ أن تكون بقيادة "البرجوازيّة الوطنيّة".
ولكن المعضلة تمتدّ جذورها إلى أبعد من ذلك، بل وإلى ما قبل انشقاق الجبهة الديمقراطيّة، أو انسحاب "القيادة العامّة"، أو الانشقاقات اللاحقة التي أفضت إلى تشكيل تنظيمات لحظيّة من قبيل "الجبهة الشعبيّة الثوريّة (الماويّة)" وأخواتها.. المأساة بصراحة ضربت جذورها في أعماق اليسار الفلسطيني منذ اللحظة الأولى لاستيراد الحلّة السوفييتيّة بنكهتها الستالينيّة عند تأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني، الذي بات يعرف اليوم باسم حزب الشعب.
في اللحظة الأولى لاستيراد الماركسيّة المشوّهة من الاتّحاد السوفييي، الذي شهد ارتدادا فادحا عن المبادئ اللينينيّة على يد جوزيف ستالين، ما أفضى بالتالي إلى أن تكون البيروقراطيّة السوفييتيّة هي أوّل من يعترف بالكيان الصهيوني "كدولة"، واليسار الفلسطيني يشهد "معارك فكريّة"، تحوّلت عبر السنوات إلى شكل من أشكال الواقعيّة المبتذلة، التي تهدف إلى تفصيل النظريّة على مقاس المصالح السياسيّة قصيرة الأمد، وتضع "التكتيك" قبل الاستراتيجيّة، حتّى وإن كان لا يخدمها.
الحزب الشيوعي، الذي كان كثيرا من أعضائه يؤمن بوهم التحالف الطبقي مع البروليتاريا الأرستقراطيّة المتمثّلة بالطبقة العاملة اليهوديّة، والمتمتّعة بمصالح فئويّة يضمنها لها الاحتلال، كان يستحيل عليه وفقا لهذه المقاربة أن يشكّل قيادة ثوريّة للشارع الفلسطيني، الذي التفّ بعد النكسة حول اليسار لسبب واحد فقط، وهو طرح الكفاح المسلّح كرأس حربة في مواجهة المشروع الصهيوني. في تلك اللحظة، كان من الممكن أن تقود الجبهة الشعبيّة مشروع التحرّر الوطني، لولا الانشقاقات الكارثيّة التي قسمت ظهرها، والتخبّط المستمرّ بين محاولة تبنّي النهج الماركسي اللينيني، والإرث التاريخيّ المتمثّل بحركة القوميّين العرب.
أمّا الجبهة الديمقراطيّة، التي رفعت شعار "من تحوّل فقد تحوّل"، معلنة انشقاقها، وتبنّيها الكامل للماركسيّة، فلم تقم صراحة سوى بتبنّي نسخة أكثر تشوّها من النسخة السوفييتيّة.. فقد تبنّت مقاربة شبه أيديولوجية، تحكمها المصلحة الذاتيّة المستندة إلى براغماتيّة متطرّفة، دفعتها لاحقا إلى اقتراح برنامج "الحلّ المرحلي"، الذي نشهد اليوم نتائجه المروّعة.
ومن الستالينيّة، إلى الماويّة، إلى مداعبة الأحلام الجيفاريّة، استمرّ اليسار الفلسطيني في الانتقال من وصاية دوليّة إلى أخرى، دون أن يتمكّن من "فلسطنة" الماركسيّة، وطرح تصوّر علميّ للمسألة القوميّة العربيّة، دون التلاشي في الشوفينيّة أو التخلّي عن الماديّة الجدليّة، رغم أن جهودا فكريّة جبّارة بذلها منظّرو الدوائر الأيديولوجيّة في هذا المجال، إلّا أن احتكار الإرادة السياسيّة، التي كانت تتحكّم بها البيروقراطيّة التنظيميّة، حال دون بلورة البديل النظري، وترجمته إلى ممارسة على أرض الواقع.
الواقعيّة المبتذلة
في غياب التصوّر النظري الذي يمكّن من "هضم" الماركسيّة فلسطينيّا، وبالتالي صياغة برنامج سياسي ثوريّ موحّد، لا يمكن لليسار تشكيل جبهة قادرة على قيادة المشروع التحرّري الفلسطيني. ولكن بصراحة، الفشل في تقديم مثل هذا التصوّر لا يعود إلى عجز فكريّ، أو ضعف نظريّ، وإنّما يعود، كما ورد سابقا، إلى أسباب براغماتيّة سياسيّة، كانت نتيجتها صياغة تأويلات تبريريّة تخدم أهدافا تنظيميّة، أو مناورات تكتيكيّة.
عندما طرح اليمين الفلسطيني مبدأ "فلسطنة" الثورة، أصبح شعار "الوحدة الوطنيّة" فوق أيّ اعتبار. المنطلقات الفكريّة بات من المعقول التضحية بها، حفاظا على وحدة "البيت الفلسطيني" (مثال ذلك موقف الجبهة الشعبيّة من اليسار داخل حركة فتح). شعار طوباويّ جميل، لولا أنّه كان يعني في الواقع وحدة القيادات الفصائليّة، على أسس تمثيليّة بحتة، وليس وحدة الشارع الفلسطيني، وفئاته الشعبيّة، على أساس مشروع ثوريّ تحرّري حاسم.
وهكذا، استمرّ اليمين الفلسطيني في قيادة منظّمة التحرير حتّى تجريدها من ميثاقها والاعتراف بالكيان الصهيوني كدولة. اليسار (الذي صاغ جزء منه وثائق التنازل الأولى عن أرض فلسطين التاريخيّة، واكتفى جزؤه الآخر بكونه الفصيل الثاني في المنظّمة، مراهنا على وحدتها على حساب طرحه الثوري)، بات تقريبا خارج دوائر صناعة القرار منذ استبدلت السلطة بتلك المنظّمة المغدورة.
بين طوباويّة "الوحدة" وبراغماتيّة التمثيل التنظيمي، لا يزال اليسار الفلسطيني راضيا بلعب دوره الثانويّ في المعادلة السياسيّة، ولا تزال الخلافات بين مختلف التنظيمات اليساريّة تترجم إلى تحالفات مختلفة، ومؤقّتة.. فإذا مالت "الشعبيّة" إلى "حماس"، سارعت "الديمقراطيّة" وحزب الشعب إلى مغازلة "فتح". بيد أن الأسباب الجوهريّة لهذه الخلافات داخل اليسار الفلسطيني باتت أبعد ما تكون عن وصفها بالخلافات الأيديولوجيّة، وخاصّة أن الماركسيّة ونهجها الجدلي هي اليوم آخر همّ "القيادات"، التي تقتات على ما تبقّى من إرث تنظيماتها "التاريخي".
غياب الترجمة الحقيقيّة لمبدأ "النقد والنقد الذاتي"، واحتكار البيروقراطيّة التنظيميّة لمواقع صنع القرار في مختلف الفصائل اليساريّة، التي شيّدت أسسها التنظيميّة وفقا للمبادئ الستالينيّة، كانا العاملين الحاسمين في شيخوخة هذا اليسار، الذي باتت تقوده "واقعيّة" الاستسلام إلى الأمر الواقع، عوضا عن السعي لتغييره ثوريّاً.
مهزلة الخطيئة
ذات يوم، رفع اليسار الفلسطيني راية الكفاح المسلّح، عندها تمكّن من قيادة الجماهير وفقا لطرحه الأيديولوجي، بل وساهم في فرض أبجديّات القضيّة الفلسطينيّة على العالم بأسره. وعندما ردّت المقاومة الإسلاميّة على مشروع أوسلو التصفويّ بعمليّاتها الجهاديّة، تمكّنت أيضا من تحقيق أوسع التفاف جماهيريّ حولها. وقبل هذا تمكّنت حركة فتح، التي رفعت شعار "الطلقة الأولى"، من أن تكون الفصيل الأوّل على الساحة الفلسطينيّة. الكفاح فقط، هو ما يوحّد الجماهير الفلسطينيّة، ويجعلها تصطف خلف أي تنظيم يناضل في سبيل مصالحها الطبقيّة والوطنيّة، بصرف النظر عن المصطلحات الأيديولوجيّة التي يختارها في خطاباته!
ولكن، إذا أردنا الحديث بلغة ماركسيّة، فاليسار الفلسطيني، في حال كان لا يزال مؤمنا بأدبيّاته، يعلم تماما أن "الكمبرادور" المتمثّل اليوم بالسلطة وشركائها، والذي قبل اليسار بالعمل في ظلاله، لا يمكن على الإطلاق أن يقود مشروعا تحرّريّا.. البرجوازيّة تخلّت منذ عقود عن دورها التاريخيّ، وباتت مصالحها مرتبطة تماما، وبشكل مباشر، بمصالح الاحتلال.. فهل سيبقى الأمل معقودا عليها؟ أم أن حتّى قيادات اليسار الفلسطيني باتت تدافع عن مصالح الطبقة "المتذبذبة"، التي يفترض أنّها انسلخت عنها؟! خوض الانتخابات كان خطيئة منذ البداية، ولكن هذه الخطيئة أصبحت مهزلة بالفعل، عندما فشل اليسار حتّى في تكوين قائمة براغماتيّة، بعدما تخلّى عن أدبيّاته الثوريّة.
التخلّي عن الكفاح المسلّح وأد حركة فتح في هياكل سلطة لا تخدم سوى الاحتلال وأهدافه، وستلحق بها "حماس" في حال أصرّت على مناوراتها السياسيّة، وكبّل اليسار بمعارك جانبيّة ثانويّة، لا تخدم حتّى أهدافه التنظيميّة.. الثورة هي كلمة السرّ الجوهريّة، التي تمكّن من قيادة الشارع الفلسطيني.. المسألة باختصار أنّ الحلم الفلسطيني لا يمكن اختزاله في "دويلة"، أو حتّى دولة! المشروع الفلسطيني كان وما زال وسيبقى تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني، واجتثاث الصهيونيّة من هذه الأرض الممتدّة من البحر المتوسّط إلى نهر الأردن، باعتبار الكيان الصهيوني هو ذراع الإمبرياليّة في المنطقة. هذا ما كان يقوله اليسار ذات يوم، فكيف عمد الآن إلى تغيير القضيّة عوضا عن تغيير المدافعين عنها؟