عاشت تونس حالة ترقب استمرت مدة شهر، إلى أن أعلن رئيس الجمهورية قيس سعيّد، مساء أول من أمس الإثنين، قراره الجديد، والذي تمثل في تمديد العمل بالإجراءات الاستثنائية (تعليق عمل البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه وإجراءات أخرى)، من دون تحديد آجال واضحة لانتهاء هذه الفترة. بذلك، تستمر حالة الغموض في البلاد، إذ لا توجد معلومات مؤكدة بشأن الآتي، بحكم غياب سياسة تواصلية بين الرئاسة ووسائل الإعلام، وهو ما جعل الصحافيين يفتقرون للأخبار الصحيحة، وسمح لأطراف وشخصيات لها أجندات مختلفة وحسابات متضاربة، بترويج معلومات وخيارات يصعب التأكد من سلامتها وجديتها وقدرة البلاد على تحملها.
لم تعد واردة العودة إلى المشهد السياسي والمؤسساتي السابق. هذه إرادة الرئيس سعيد الذي يعتقد أنه أخذ تفويضاً مطلقاً من الشعب. قالها بوضوح: "من يعتقدون بأن الماضي سيعود فهم واهمون". لقد انفرد بالقرار، وغداً سينفرد بالسلطة مهما كان شكلها وعنوانها. إذ من المفارقات التي حصلت في تونس، أنّ ساكن قرطاج تمكن في لحظة واحدة وفارقة من قلب موازين القوى، بعد أن انحازت إلى صفه المؤسستان العسكرية والأمنية، وبعد أن كسب ثقة 92 في المائة من التونسيين الذين أدلوا بآرائهم في آخر عملية سبر للآراء نظمتها مؤسسة "سيغما كونساي".
لم تعد واردة العودة إلى المشهد السياسي والمؤسساتي السابق
بناء على هذه الثقة في النفس، قرر تمديد آجال التدابير الاستثنائية، غير عابئ بكل الأطراف الداخلية والخارجية التي طالبته بإنهاء هذه الوضعية الشاذة التي يمكن أن تفتح المجال أمام المجهول، خصوصاً في ظل غياب البرلمان، وجمع كل السلطات في يد الرئيس. كما أن قيس سعيّد لم يقيّد نفسه بفترة زمنية محددة لإنهاء هذه الفترة، وإنما استعمل عبارة مطاطة حين اعتبر أن الوضعية الحالية ممكن أن تستمر حتى "إشعار آخر".
في هذه الأجواء التي يسودها الغموض، يُلاحظ أن الطبقة السياسية أصيبت بالعجز الكامل، وتحولت إلى كائن مشلول. لقد تفرقت الأحزاب والمنظمات وانكمشت على ذاتها، ولم يعد لها إطار جامع بعد تجميد البرلمان، وفقدت الحد الأدنى من الثقة في بعضها البعض، بعد أن أيد الكثير منها الإجراءات الاستثنائية نكاية في حركة النهضة التي ابتعد كثيرون عنها، وحملوها الجزء الأكبر من مسؤولية الانهيار السياسي، واعتبروا أنها قد تحولت إلى جزء من الماضي، على الرغم من اقتناع العديد من هؤلاء بأنهم لا يستطيعون ملء الفراغ، ولا يملكون أي ضمانة بأن حقوقهم السياسية لن تمس أو تتقلص. فهم جميعاً لم يستفيقوا حتى الآن من آثار الصدمة، بعد أن اختلط عندهم الحلم بالخوف من نهاية حزينة لهم، ولكل الشعارات التي رددوها والمكاسب السياسية التي تحققت أو في طريق التحقق على أرض الواقع. فحزب " تحيا تونس" يواجه بدوره حملة سياسية بعد أن تم وضع ثلاثة من مساعدي مؤسس الحزب ورئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد، تحت الإقامة الجبرية بتهم الفساد، وذلك على الرغم من العلاقة الجيدة التي تربط رئيس الحزب بمؤسسة الرئاسة. كما أنّ قرار الرئاسة جاء مفاجئاً بجلب رجل الأعمال سليم الرياحي الموجود حالياً في اليونان، والذي شغل البلاد والعباد في مرحلة سابقة، على الرغم من أن هذا الرجل ابتعد عن الأضواء لمدة لا تقل عن سنتين. وفي ذلك دليل على أن كاسحة الألغام التي يستعملها رئيس الدولة لن تستثني أحداً؛ سواء الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني. فحتى المؤسسة الحكومية المكلفة بمقاومة الفساد، تم إخلاؤها من العاملين فيها، وقامت الأجهزة الأمنية بوضعها تحت الحراسة بعد أن صدر قرار بوضع رئيسها السابق المحامي شوقي الطبيب، تحت الإقامة الجبرية.
على صعيد موازٍ، تواصل حركة النهضة البحث عن الطرق الأقل كلفة التي تخرجها من أزمتها الراهنة. فرئيس الحركة راشد الغنوشي، اعتبر الظرف مناسباً للإعلان عن حل المكتب التنفيذي الذي سبق لبعض أعضائه أن تقدموا باستقالتهم على أثر الإجراءات التي اتخذت يوم 25 يوليو/تموز الماضي. أراد الغنوشي من خلال ذلك طمأنة قواعد الحركة بوجود إرادة سياسية للخروج من المأزق، وبأنه عازم على أن يجعل من المؤتمر المقبل للحركة، فرصةً للدفع نحو الأمام. لكن العارفين بالأوضاع الداخلية للنهضة، يدركون أن حجم الأزمة يتطلب قرارات شجاعة أكبر من مجرد اتخاذ إجراءات تنظيمية أو إدارية.
الطبقة السياسية أصيبت بالعجز الكامل، وتحولت إلى كائن مشلول
لا أحد خارج منطقة إطلاق النار. لهذا وصفت أطراف داخلية وخارجية الأوضاع في تونس بكونها يسودها الغموض. فرئيس الدولة مطلق اليدين، يمكنه الشروع في تغيير النظام السياسي وإعادة صياغته كما يريد. فهو منذ أن جمع كل السلطات، لم يستشر أحداً من السياسيين أو الخبراء ونشطاء المجتمع المدني. لا أحد يعرف ماذا يعد الرئيس للمرحلة المقبلة، وما هي خطواته والقرارات التي ينوي الإعلان عنها في الفترة القادمة.
حتى الحكومات الغربية، ومؤسسات التمويل الدولية، تنتظر بدورها حداً أدنى من الوضوح لكي تبني مواقفها، وتحدد نوعية الإجراءات التي يمكن أن تُوجه للتعامل مع الحالة التونسية. إذ على الرغم من الدعوات التي وجهتها هذه الحكومات إلى الرئيس التونسي، والمتعلقة بتعيين رئيس للحكومة ووضع خريطة طريق، إلا أنّ ذلك لم يؤثر على أجندة قيس سعيّد، الذي بقي غير منشغل بهذه الطلبات التي يعتبرها ثانوية وليست ذات قيمة، ولا هو معني بقصة الآجال الزمنية. فالزمن عنده مختلف عن زمن الآخرين، وأجندته تبقى أعلى وأهم من أجندات بقية الأطراف.