استمع إلى الملخص
- دعا المجلس الرئاسي الليبي لإعادة النظر في القرار، محذراً من تعميق الانسداد السياسي ومنح مجلس النواب سلطات واسعة، بينما رفض مجلس النواب مطالب المجلس الرئاسي، مؤكداً على عدم اختصاص المحكمة العليا بالنظر في الطعون الدستورية.
- أشار خبراء إلى أن تدخل مجلس النواب في القضاء يهدد مبدأ الفصل بين السلطات، حيث جاء إنشاء المحكمة في سياق الصراع السياسي لمواجهة خطوات المجلس الرئاسي، مما يعكس تعقيدات الوضع السياسي في ليبيا.
أبدى مراقبون مخاوفهم من مغبة هيمنة مجلس النواب في ليبيا على القضاء واستقلالية قراراته وأحكامه، وتسببه في تشظي آخر المؤسسات الليبية استقلالية وتوحداً، بعد دفعه في الآونة الأخيرة بتفعيل قرار سابق له بإنشاء محكمة دستورية عليا للنظر في الطعون الدستورية على القرارات والقوانين التي تصدرها جميع الجهات. وفي 19 سبتمبر/ أيلول المنصرم، قرر المجلس بشكل مفاجئ افتتاح مقر محكمة دستورية في بنغازي، قبل أن يعلن عن أداء رئيس وأعضاء المحكمة اليمين القانونية أمامه في جلسة عقدها في 23 من الشهر ذاته، من دون الاكتراث لحالة الجدل والرفض التي لاقاها إصداره قانون إنشاء المحكمة الدستورية في ديسمبر/ كانون الأول 2022.
حينها رفض المجلس الأعلى للدولة انفراد مجلس النواب بإصدار القانون، باعتباره شريكاً له في إصدار القوانين والقرارات وفقاً للاتفاق السياسي. كما اتفق رئيس مجلس النواب عقيلة صالح مع نظيره في مجلس الدولة خالد المشري "على عدم إصدار القانون الخاص باستحداث المحكمة الدستورية" وأصدرا بياناً مشتركاً بخصوص ذلك في ديسمبر 2022. كذلك أصدرت المحكمة العليا، في يونيو/ حزيران 2023، حكماً ببطلان قرار إنشاء المحكمة الدستورية، عقب نقض مجلس النواب اتفاقه مع المجلس الأعلى للدولة، وذهابه لاختيار رئيس للمحكمة الدستورية وأعضائها.
وإثر أداء أعضاء المحكمة الدستورية في بنغازي اليمين القانونية، في 23 سبتمبر، وإعلان مباشرة المحكمة أعمالها، دعا المجلس الرئاسي مجلس النواب لإعادة النظر في قانون إنشاء محكمة دستورية وإلغائه لضمان استقلالية القضاء، محذراً من أنّ خطوته ستعمق "حالة الانسداد السياسي"، وأنّ قرار إنشاء المحكمة "وسيلة لتحقيق مصالح محدودة أو فئوية". وفيما طالب المجلس الرئاسي مجلس النواب بـ"احترام حكم المحكمة العليا بشأن بطلان قرار إنشاء المحكمة الدستورية"، اعتبر أنّ إصراره على تفعيل قرار إنشاء المحكمة "يثير القلق"، ويمنحه "سلطات واسعة تتعلق بتشكيل المحكمة واختيار أعضائها، مما يعزز من نفوذ المجلس على القضاء"، وفي مواجهة الأطراف السياسية الأخرى، بل "ويحد من فرص التوصل إلى تسوية سياسية شاملة مبنية على التوافق".
في المقابل، رد مجلس النواب على مطالب المجلس الرئاسي بالتأكيد على عدم ولاية المحكمة العليا بالنظر في الطعون الدستورية بعد صدور قانون إنشاء المحكمة، مشيراً إلى أن حكم المحكمة العليا "منعدم" لصدوره قبل صدور قانون إنشاء المحكمة، وكان على المحكمة العليا عدم إصدار أي حكم على قانون مفترض لم يصدر وقتها. وشدد على عدم اختصاص المجلس الرئاسي بـ"التعقيب على أعمال مجلس النواب المنتخب من الشعب".
من جهتها، أصدرت المحكمة العليا، بياناً، أول من أمس الثلاثاء، انتقدت فيه بشدة ما وصفته بمحاولات المجلس إخضاع السلطة القضائية واحتواءها، نافية أن يكون حكمها ببطلان قانون إنشاء المحكمة الدستورية صدر قبل صدور قانون إنشاء المحكمة، مشيرة إلى أنه صدر في مايو/ أيار 2023، أي بعد مرور أشهر على صدور قانون إنشاء المحكمة.
القمودي: مجلس النواب يتدخل في اختصاصات القضاء
تعليقاً على ذلك، حذر الخبير القانوني والمحامي بلقاسم القمودي من إدخال المؤسسة القضائية على خط الصراع السياسي، معتبراً، في تصريح لـ"العربي الجديد"، اليوم الخميس، أنّ قرار مجلس النواب بالتدخل في اختصاصات القضاء "أول خطوة في هذا الطريق، والأخطار المرتبطة بهذا القرار تضرب الكثير من المبادئ الثابتة ومنها استقلال السلطات والفصل بينها"، مشيراً إلى أن "المطالع لقانون إنشاء المحكمة العليا يرى بوضوح كيف صاغه مجلس النواب للهيمنة على القضاء والسيطرة عليه".
وتساءل القمودي "كيف يمكن لمحكمة أن تستقل بالنظر في قرارات مجلس النواب وصحة صدورها عنه، ومن يعين رئيس المحكمة وأعضاءها ويعزلهم المجلس نفسه"، مضيفاً أنّ المجلس "انطلق من خلفية أنه وريث للسلطة التشريعية في زمن النظام السابق وهي مؤتمر الشعب العام الذي كان يملك صلاحيات إنشاء المحاكم المختصة بالنظر في الطعون الدستورية، وكان هذا معمولاً به في ظل هيمنة النظام السابق على كل السلطات، وحتى بالنظر لذلك فمجلس النواب لا يملك كل صلاحيات مؤتمر الشعب العام، بل بعضها، كما حدد ذلك الإعلان الدستوري عام 2011، وزادت الاتفاقيات السياسية في الصخيرات عام 2015 وجنيف عام 2021 من تقليصها وحددتها فقط في إصدار التشريعات التي تتطلبها المرحلة الانتقالية كقانون الانتخابات، والأهم إصدار قانون الاستفتاء على مشروع الدستور الدائم، وليس من اختصاص مجلس النواب امتلاك الصلاحيات التشريعية كاملة".
وتابع القمودي "تعليل مجلس النواب توقف الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا عن العمل لعدة سنوات لا يبيح له إنشاء محكمة مستقلة بديلة عنها، بل كان من الواجب أن يسعى إلى تفعيلها ودفعها لممارسة صلاحياتها، وهي النظر في صحة صدور القوانين والقرارات ذات الصبغة الدستورية". وأردف "لكن الأمر يبدو أنه يتعلق بجانب آخر وهو أن إعادة المجلس الدائرة الدستورية للعمل يعني إقراره بالأحكام التي صدرت عنها، ومنها حكمها ببطلان قانون انتخاب مجلس النواب، الذي صدر عام 2014، على الرغم من أن ولاية المجلس التشريعية انتهت وعودته للمشهد كانت بموجب اتفاق الصخيرات عام 2015، لكن يصر على أنه منتخب من الشعب وهو ما يعارضه حكم بطلان قانون انتخابه".
وعليه، يوضح القمودي، ذهب المجلس "للانقلاب على الدائرة الدستورية، وإنشاء محكمة دستورية مستقلة بقانون فصّله للهيمنة والسيطرة عليها، حتى لا يجري الطعن في أي قانون أو قرار يصدره". وينص قانون إنشاء المحكمة الدستورية الصادر عن مجلس النواب على أن "رئيس وأعضاء الهيئة يعينون بقرار من رئيس مجلس النواب"، وتحال إليها "جميع الدعاوى والطلبات القائمة أمام الدائرة الدستورية" في المحكمة العليا.
العاقل: لا أحد بريء مما وصل إليه الوضع
وفي الوقت الذي أكد فيه القمودي أن إنشاء مجلس النواب المحكمة الدستورية "باطل، وخطير في الوقت نفسه، لأنه يناقض مبدأ الفصل بين السلطات"، لفت الباحث في الشأن السياسي والقانوني أحمد العاقل إلى أن إنشاء المحكمة جاء في سياقات الصراع السياسي "والجميع ليس بريئاً مما وصل إليه الوضع وتعقيداته".
وأوضح العاقل في حديث لـ"العربي الجديد" أن "الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا أصدرت قرارها ببطلان انتخابات مجلس النواب عام 2014 ثم علقت أعمالها لفترة طويلة، قبل أن ترجع عام 2022 بالتزامن مع إصدار مجلس النواب قانون إنشاء المحكمة الدستورية"، متسائلاً "من دفعها للرجوع، ومن دفعها لتعليق أعمالها قبل ذلك، من الصحيح القول إن أطرافاً سياسية لم تكن تقف وراء تعليق الدائرة الدستورية أعمالها ثم العودة، والآن نرى المجلس الرئاسي تحرك لمعارضة خطوة تفعيل قرار المحكمة الدستورية، فهل تحرك بموجب وطني صرف أم لدوافع سياسية؟".
وتابع العاقل "بكل تأكيد فهي دوافع في خريطة الصراع السياسي"، قبل أن يستدرك بالقول "الأمر ليس تبرئة أو دفاعاً عن خطوة إنشاء محكمة دستورية، فهي خطوة سيقضي بها مجلس النواب على آخر مؤسسات الدولة استقلالية ووحدة، فأي الأحكام ستنفذ مؤسسات الدولة الآن، أحكام الدائرة الدستورية التي تصر المحكمة العليا على استمرارها وشرعيتها، أم المحكمة الدستورية التي يصر مجلس النواب على شرعيتها؟".
وتوقف العاقل في الوقت عينه عند توقيت إنشاء المحكمة وتفعيل قرارها، متسائلاً "ما الحاجة اليوم لمحكمة دستورية؟ الجواب يبدو في نصوص قانون إنشائها الذي يجعلها تحت سيطرة وقبضة مجلس النواب، باعتقادي أن خطوة تفعيل المحكمة متعلقة بأسباب حديثة طرأت، وتحديداً ذهاب المجلس الرئاسي لإنشاء مفوضية للاستفتاء تطرح كل القرارات والقوانين، بما فيها الدستورية والتشريعية، الصادرة على الشعب للاستفتاء عليها، وهو استهداف مباشر لمجلس النواب الذي اتخذ خطوة تفعيل المحكمة الدستورية للالتفاف على قرار إنشاء المفوضية، ويسمح بالطعن على إنشائها أمام محكمة دستورية". وأضاف أن "الصلاحيات التي نص عليها قانون إنشاء المفوضية ذات طبيعة دستورية لا يملكها المجلس الرئاسي".