حاول المبعوث الأممي إلى اليمن، هانس غروندبرغ، الظهور بشكل حازم في أول نشاط رسمي أمام مجلس الأمن، مع تقديمه إحاطته الأولى مساء الجمعة الماضي، عندما دعا أطراف النزاع للانخراط في حوار سياسي سلمي بحسن نيّة ومن دون شروط مسبقة، لكن طموحاته بالتحرر من الضغوط وعدم الوقوع في فخ المساومة، اصطدمت باكراً بالتعنّت الحوثي. وطيلة السنوات الثلاث الماضية، ظلت الشروط المسبقة حجر عثرة أمام أي تقدّم في عملية السلام اليمنية، وكانت سبباً رئيسياً في فشل مهمة المبعوث السابق مارتن غريفيث، الذي رضخ لها تارة تحت دواع إنسانية، وتارة جراء قصور في فهم نوايا الأطراف التي تعلن على الورق أنها مع وقف الحرب، ثم تقوم بالتحايل على ذلك عبر شروط مسبقة أغلبها غير منطقية ومستحيلة التطبيق.
في مستهل مهمته التي بدأت رسمياً يوم 5 سبتمبر/ أيلول الحالي، بدا المبعوث الجديد أكثر واقعية من سلفه، إذ تجنّب تسويق الوعود لليمنيين بقرب السلام المنتظر، وأقر بصعوبة المهمة التي تنتظره، ما يجعل التوقعات بشأن نجاح مهمته مختلفة بشكل تام عن غريفيث. وجدّد غروندبرغ تأكيده ضرورة التخلي عن الشروط المسبقة في إحاطته، وكذلك في الإفادة أمام وسائل الإعلام، كما حصل على دعم لذات النقطة من مجلس الأمن، الذي شدّد هو الآخر في بيان صحافي تلا الجلسة، على أنه ينتظر أن تستمر الأطراف في "التواصل واللقاء مع المبعوث ومع بعضها البعض تحت رعاية الأمم المتحدة، بحسن نيّة ومن دون شروط مسبقة".
تجنّب غروندبرغ تسويق الوعود لليمنيين بقرب السلام المنتظر
خريطة طريق
يبدو أن غروندبرغ قد استفاد من الفترة التي عاصر بها الأزمة اليمنية من موقعه سفيراً للاتحاد الأوروبي، فضلاً عن التعلم من أخطاء سلفه، إذ حرص في إحاطته الأولى على قطع الطريق أمام أي شروط مسبقة، دائماً ما تتعمّد الأطراف وضعها لإحباط الجهود الأممية، وذلك بطرح نقاط بدت ملبية لمطالب أطراف الصراع كافة.
في الملف العسكري، ذكر غروندبرغ أن الهجوم الحوثي على مدينة مأرب "يجب أن يتوقف"، لما تسبب به من مقتل آلاف الشباب، وجعل المدنيين، بمن فيهم العديد من النازحين داخلياً، يعيشون في خوف دائم من العنف والنزوح من جديد. وهذه النقطة لم تنل إعجاب الحوثيين الساعين إلى فرض أمر على الأرض، وبدا ذلك واضحاً من خلال توقيت الإفصاح عن مكاسب ميدانية قديمة تحققت غالبيتها قبل نحو عام، بعد يوم من الإحاطة، في رسالة ضمنية هدفها استيعاب المعطيات الأخيرة قبل أي تسوية سياسية.
في الملف الإنساني، شدّد غروندبرغ على "ضمان حرية حركة الأفراد والسلع من وإلى اليمن وكذلك داخل اليمن"، وهي نقطة تلبي مطالب الحوثيين برفع الحصار عن مطار صنعاء أمام الطيران التجاري وتخفيف القيود على استيراد السلع والوقود عبر ميناء الحديدة، لكنها تُلزمهم في المقابل بضرورة رفع الحصار الداخلي، إذ ذكر المبعوث على وجه الخصوص ملف تعز المنسي، ودعا إلى "فتح الطرق للسماح بحركة الأفراد والسلع من وإلى تعز".
تجنّب غروندبرع الخوض في التفاصيل أو تبني أي مقترحات حل سابقة، لكنه أشار بشكل ضمني، إلى المبادرة السعودية لإنهاء الأزمة اليمنية، عندما تحدث أنه سيقوم باستغلال بداية ولايته "لإعادة تقييم المسؤوليات الواقعة على عاتق الجميع بصفاتهم المختلفة". وذكر على وجه التحديد "المبادرات التي اتخذها جيران اليمن" وأعضاء مجلس الأمن. وتشير عبارات الثناء على مبادرات جيران اليمن وحديثه عن "وجوب زيادتها"، إلى أنه سيقوم بتحديث تلك المبادرات بما يتناسب مع تعقيدات المرحلة السابقة، وذلك بمطالبة الأطراف بتقديم المزيد من التنازلات فيها. وبما أن كرة الأزمة اليمنية قد باتت في ملعب الأطراف الإقليمية أكثر مما هي في متناول الأطراف الداخلية، كشف غروندبرغ عن خطط لتوسيع رقعة مشاوراته لتشمل إلى جانب طرفي الصراع اليمني، زعماء إقليميين في الرياض ومسقط وأبوظبي والكويت وطهران والقاهرة وغيرها، كما أبدى استعداده لقضاء أكبر قدر ممكن من الوقت في اليمن ومع اليمنيين.
ومن المقرر أن يستهل المبعوث الأممي أولى جولاته أواخر الأسبوع الحالي بزيارة الرياض للقاء الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي ومسؤولين سعوديين، وفقاً لما أفاد مصدر حكومي تحدث لـ"العربي الجديد". ووصل غروندبرغ من الولايات المتحدة إلى العاصمة الأردنية عمّان التي تحتضن مكتبه الإقليمي، حيث سيعقد خلال اليومين الماضيين اجتماعات مع معاونيه السياسيين للاتفاق على تصورات عمل المرحلة المقبلة، قبل الانتقال إلى الرياض ومسقط وصنعاء.
رفع الحوثيون سقف شروطهم بالدعوة إلى وقف الغارات الجوية
هجمة حوثية مبكرة
وبدا أن جماعة الحوثيين شعرت بالخطر من إحاطة غروندبرغ وخططه الهادفة لتجريدهم من أبرز أسلحتهم المتمثلة بالشروط المسبقة، ولم يكن أمامها من وسيلة للحفاظ على تكتيكها المعطل لعملية السلام، سوى شن هجمة تشويش مبكرة. وسارع كبير المفاوضين الحوثيين محمد عبد السلام لرفض طلب غروندبرغ بالتخلي عن الشروط، وذلك عندما استبعد "أي فرصة لإجراء حوار قبل إنهاء الحصار ووقف الغارات الجوية"، مستغلاً السخط الشعبي المتنامي إثر مقتل شاب يمني على أيدي مليشيات "المجلس الانتقالي الجنوبي" الانفصالي أثناء انتقاله من عدن إلى صنعاء، في حادثة مروعة سلطت الضوء على مخاطر الراغبين بالسفر إلى الخارج من أبناء شمال اليمن جراء إغلاق مطار صنعاء.
الفريق جلال الرويشان والذي تحتفظ جماعة الحوثيين بمنصبه نائباً لرئيس الوفد التفاوضي من أجل مهمة توجيه الانتقادات للمبعوث الأممي في الغالب، خرج هو الآخر لتوجيه رسائل ضغط على غروندبرغ. وقال إن الآلية الأممية للتعامل مع حرب اليمن "أضحت مستهلكة وغير مجدية ولن تحقق السلام أو توقف الحرب وترفع الحصار". وحاول الرويشان التشويش على المبعوث بالانحياز بشكل مبكر، حين نصحه بـ"الحياد والتحرر من ضغط الدول الكبرى"، كما انتقد الإحاطة الأخيرة، معتبراً أنها "تتحدث عن الطرف الذي يفرض الحرب والحصار وكأنه مظلوم" في نقد ضمني للفقرة المنددة بالهجمات الحوثية في العمق السعودي.
حملة الاستنفار الحوثية ضد المبعوث الأممي، شارك فيها أيضاً رئيس حكومة صنعاء غير المعترف بها، عبد العزيز بن حبتور، والذي انحصرت مهمته في الضغط بشأن التصريحات الخاصة بالجنوب، وتحديداً الفقرة التي أشار فيها غروندبرغ إلى أنه "لن يستمر السلام في اليمن على المدى البعيد، إذا لم تلعب الأصوات الجنوبية دوراً في تشكيل هذا السلام على نحو مسؤول".
سيقوم غروندبرغ بتفعيل المبادرات السابقة عبر طرح تقديم تنازلات
ويبدو أن جماعة الحوثيين الطامحة لاجتياح وحكم كامل مدن اليمن، قد قرأت تصريحات غروندبرغ على أنها مقدمة لمناقشة مطالب "المجلس الانتقالي" بالانفصال، إذ أشار بن حبتور إلى أن "صنعاء تمسكت بخيار الدولة اليمنية الواحدة واستقلال القرار والهوية وعدم التفريط بسيادتها، وعلى المبعوث الجديد أن يستوعب كل ذلك". كما مارس بن حبتور ضغوطاً على المبعوث في ملفات أخرى وعلى رأسها القرارات الدولية التي تمنح الشرعية للرئيس هادي، مشيراً إلى أن غروندبرغ "معني بالتحرر من العُقد التي توضع لأي مبعوث جديد، وبتجاوز قرارات مجلس الأمن الخاطئة"، في إشارة إلى القرار 2216.
وعلى الرغم من المخاوف التي أبداها مراقبون من الضغوط الحوثية وما يمكن أن تسفر عنه من تقليل لحظوظ نجاح غروندبرغ أو استسلامه للابتزاز كما حصل مع سلفه غريفيث، إلا أن مصدراً دبلوماسياً يمنياً مقرباً من طاولة المشاورات، رأى أن الهجمة المبكرة على المبعوث أمر متوقع كونه لم يتبن وجهة نظرهم في كافة المسائل. وأضاف المصدر لـ"العربي الجديد" أن "الحوثيين اعتادوا على المقايضة مع المبعوث السابق غريفيث في كل شيء، حتى وإن كانوا لا يقدمون في المقابل أي شيء حقيقي. من الواضح أن غروندبرغ يريد إضفاء احترام للأمم المتحدة من دون استعداء أحد، وعدم المضي بنفس صيغة العلاقة السابقة بين المبعوث وأطراف النزاع". وأشار الدبلوماسي اليمني إلى أن غروندبرغ قال في إحاطته الأولى ما يعتقد أنه الصحيح، وأن المجتمع الدولي سيدعم خطته الجديدة، والتي تبعث قليلاً من الأمل بنهج أممي جديد في الأزمة اليمنية.
ويقف التعنّت الحوثي كعقدة رئيسية أمام قطار السلام اليمني، وإذا ما نجحت جهود المبعوث الأممي في انتزاع تنازلات جديدة من التحالف في زيارته المقبلة إلى الرياض، من المتوقع أن يتم نقلها إلى الوسطاء العمانيين في مسقط من أجل إقناع جماعة الحوثيين بها. وفي حال أثمرت تحركات غروندبرغ بشكل سريع عن وقف الهجوم الحوثي على مدينة مأرب واستئناف الرحلات التجارية من مطار صنعاء، فمن المؤكد أن المهمة التالية ستكون على عاتق السعودية بوقف الغارات الجوية قبل ممارسة ضغوط، لن تبدو مستحيلة، على الحكومة اليمنية الشرعية بالتخلي عن القرار 2216 ومخرجات مؤتمر الحوار كمرجعيات للحل.