مصر ومصيرها .. أين الحلفاء؟
بعد مسار شديد التوتر من المفاوضات العقيمة بين القاهرة وأديس أبابا بشأن سد النهضة، وبعد إشارات سعودية وإماراتية وتركية وأميركية إلى وساطات محتملة ومساعٍ للحل، لم يصدر موقف واحد يساند، بوضوح، الموقف المصري، لا في واشنطن ولا موسكو ولا باريس ولا الرياض ولا أبوظبي!
والمحصلة التي تعكسها هذه الحقيقة أبعد من أن تكون سياسيةً مباشرةً، فمن ناحيةٍ تنطوي القضية نفسها على تعقيداتٍ تتصل برؤيةٍ اقتصاديةٍ تعود جذورها إلى الفكر النيوليبرالي بنزوعه المتطرّف إلى "تسعير المشاعات"، وضمنها المياه العذبة. وقد سيطرت الرؤية الاقتصادية النيوليبرالية على الاقتصاد العالمي منذ ثمانينيات القرن الماضي، ضمن عدّة أطر، في مقدمتها ما سمي "إجماع واشنطن"، وأسهم رونالد ريغان في واشنطن ومارغريت تاتشر في لندن (فضلاً عن دور تاريخي لآلان غرينسبان في رئاسة الاحتياطي الفيدرالي الأميركي) في فرض هذا التوجه عالمياً عبر البنك الدولي.
خلال القرن الماضي لعبت القيم، لا المصالح، الدور الأكبر في بناء التحالفات الأكثر أهميةً والأشد رسوخاً
من ناحية أخرى، وهذا هو الأهم، تحكّمت في العقل السياسي الرسمي العربي فكرة أن المصالح وحدها هي ما يحكم اختيارات صانع القرار السياسي، وهي فكرة تجمع بين السطحية والتضليل. وخلال القرن الماضي، على سبيل المثال، لعبت القيم، لا المصالح، الدور الأكبر في بناء التحالفات الأكثر أهميةً والأشد رسوخاً، وفي مقدمتها "التحالف الإنغلوسكسوني البروتستانتي"، الذي لا يزال يقود العالم، و"القيم المشتركة" في الحرب العالمية الثانية، فقد اجتمعت الفاشيات المتباعدة جغرافياً في حلف عسكري من برلين إلى طوكيو، وكانت الرؤية المشتركة للعالم أهم روابط هذا التحالف. وفي حالة العالم العربي، فإن القناعة غير المبرّرة بأن المصالح، والمصالح وحدها، هي ما يصنع السياسة الخارجية، عزّزها حرص أنظمة سياسية محورية في المنطقة على إبقاء بلادهم "منطقة فراغ استراتيجي" تتنقل وفقاً لحساباتٍ قصيرة النظر بين التوجه ونقيضه.
ولتتأمل هذه العبارة المهمة، حيث وقف السفير المصري في الولايات المتحدة في 1952 ليقول ما نصه: "أكيد أن مصر بحكم أيديولوجيتها إنما هي حليف طبيعي للدول الغربية الحرّة. وبالطبع، إننا من الناحية الفعلية نقع في أفريقيا كما أن النيل شريان الحياة لمصر يستمد مياهه من قلب القارّة في إثيوبيا والسودان، إلا أن ثقافتنا إنما تقوم على الحضارتين الإغريقية/ الرومانية واليهودية/ المسيحية/ الإسلامية اللتين منحتانا مصلحةً حقيقيةً في قضية الحرية والديمقراطية، فباعتبارنا أمة تؤمن بصورة راسخة بالله والملكية الخاصة، فإننا نعارض العقائد الشيوعية القائمة على الإلحاد والمادية الجماعية". وإذا بها، بعد أقل من عشرة أعوام، تتحوّل إلى ما سُمي "الاشتراكية العربية" والتنظيم السياسي الواحد و.. في تضادٍ تام مع ما قاله السفير المصري في واشنطن.
التحالفات ليست مجرّد مقايضات سياسية قصيرة النظر، بل منظومة قيم، والطبيعة المجرّدة للقيم هي ما جعل التحالفات الكبرى في عالم اليوم تبقى على قيد الحياة
وهذا الاستعداد للتحول "أيديولوجياً" من الخطاب إلى ضده، رافقه، في التجربة المصرية على سبيل المثال، تحوّل في الفعل السياسي من التقارب مع واشنطن لسنوات إلى الارتماء في أحضان موسكو ما يقرب من عقدين. وفي 1974 كان الرئيس المصري الراحل أنور السادات يوقع قراراته الشهيرة التي عرفت إعلامياً بـ "الانفتاح الاقتصادي". وفي هذا التقافز بين الفكرتين والعاصمتين والخطابين، لم يكن للقيم دور في التوجه ولا في النكوص عنه، وهذا أصل الداء. والتحالفات ليست مجرّد مقايضات سياسية قصيرة النظر، بل منظومة قيم، والطبيعة المجرّدة للقيم هي ما جعل التحالفات الكبرى في عالم اليوم تبقى على قيد الحياة في مواجهة المتغيرات. ومصر خلال نصف قرن مضى لم تقرّر أن تكون طرفاً في "شراكة قيم" لا مع "التحالف الإنغلوسكسوني" ولا مع الاتحاد الأوروبي، ولا قررت أن تكون قاعدة تحالف إقليمي ما، أياً كانت طبيعته.
واليوم، لا يمكن أن يفسّر منصفٌ إحجام واشنطن أو موسكو أو باريس أو برلين أو بكين أو أبوظبي، بأن سببه الوزن النسبي لإثيوبيا. وبعض هذه العواصم تربطها بمصر علاقات يتصوّر بعضهم أنها علاقة "تحالف"، لكن الحلفاء يصطفون بوضوح في صف واحد أمام أسئلة المصير، وسؤال سد النهضة سؤال مصير، لكن تبادل المصالح شيء، والتحالفات شيء آخر، ونتيجة الاختبار تقرع جرس إنذار.