عودة المتوسّط صانعاً للتاريخ
للتاريخ تواريخ... تُلخّص هاتان الكلمتان صراعات لم تتأثّر بعاملٍ بقدر تأثّرها بالتنازع المرير حول "تاريخ التواريخ"، الذي يحلّ في مَحلّ فوضى السرديات. وإذا ذُكِر فجر تاريخ البحر الأبيض المتوسّط، فحدّث عن الفينيقيين ولا حرج.
أثبتت تجربة البحر الأبيض المتوسّط أن لفوضى السرديات شظايا حارقة، من الحروب الصليبية إلى مجازر نشر الحضارة الغربية، إلى جرائم ارتُكِبت تحت شعار "عبء الرجل الأبيض"، وفي نهاية القائمة المشؤومة تطلق سردية "أرض الميعاد" حمم نيرانها في نطاق (ليس من المصادفة أنّه) على سواحل البحر المتوسط. وارتبطت بريطانيا (بشكل خاص) بفلسطين، وبحسب المُؤرّخة باربرا توخمان، كان من المعتاد أن يُحارَب أو يموت ثلاثة أو أربعة أجيال من أسرة واحدة في فلسطين. والملك ريتشارد حكم 12 سنة قضى منها سبعة أشهر فقط في بريطانيا، والباقي قضاه محارباً في فلسطين، وخلا العرش البريطاني مرّتَين بينما ولي العهد المُستحَق يحارب في فلسطين، وفي هذه التربة نشأ التحالف الصهيوني – الإنكلوساكسوني.
وقد صاغ المُؤرّخ البريطاني جون خوليوس نورويش حقيقةَ مكانة هذا البحر في التاريخ، في عنوان كتابه الضخم "الأبيض المتوسط: تاريخ بحر ليس كمثله بحر" (نقله إلى العربية طلعت الشايب، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2015)، وزاد المُفكّر الفرنسي المرموق فرنان بروديل الأمر وضوحاَ عندما أكّد في كتابه "تاريخ وقواعد الحضارات" (نقله إلى العربية وعلّق عليه حسين شريف، الهيئة المصرية العامّة للكتاب، القاهرة، 1999) أنّ الدور الرئيس لجغرافيا البلاد المسلمة لقرون كان مستمدّاً من أنّها "معبر بين الشرق الأقصى والغرب".
يكاد الوجود العسكري البحري العربي أن يكون غائباً في البحر المتوسط بينما الأساطيل الغربية تأتي لتفرض فيه إملاءاتها
وقد يكون صحيحاً أنّ الانتشار العالمي لمقولة "المركزية الأوروبية" أسهم في تكريس مركزية هذا البحر في التاريخَين القديم والوسيط، فشكّل اكتشاف ما سمّي بـ"العالم الجديد" حقبةً من التمدّد الأوروبي غرباً نحو الأميركيتَين، وسرعان ما أعاد التنافس الاستعماري الفرنسي البريطاني، وضمن منعطفاته المُهمّة حفرُ قناة السويس، تأكيد أهمّية العالمية هذا البحر. وفي فجر صعود القوة الأميركية كان هذا البحر ساحةَ إحدى معاركها البحرية المُبكِّرة الكبيرة حين واجهت الجزائر في 1815، وكانت الملاحة في المتوسّط سببَ المواجهة.
ولأقلّ من قرن، كان المحيط الأطلسي قلبَ العالم، حيث دار الصراع بين حلفي الناتو ووارسو على شاطئيه، لكنّ انهيار الاتحاد السوفيتي أعاد الوضع، تدريجياً، إلى ما كان عليه قروناً. وإحدى خريطتَين عرضهما السفّاح الصهيوني بنيامين نتنياهو من على منبر الأمم المتّحدة، كانت خريطة ممرٍّ اقتصادي يطمح مُخطِّطوه أن يُغيّر تاريخ المنطقة والعالم، بنقل دور الممرّ بين الشرق الأقصى والبحر المتوسّط من مصر إلى إسرائيل. واليوم، تتدفّق الأساطيل الغربية مرّة أخرى لتتمركز في الساحل الشرقي للبحر المتوسّط حيث قلب العالم الحقيقي، وصدق من قال "إنّ من يسيطر على المسافة بين القاهرة وأنقرة يحكم العالم". وفي قلب هذه المسافة أُنشِئت إسرائيل، وفيها انطلقت شرارةُ جولةٍ جديدةٍ من صراع يمتدّ إلى إيران، التي أدركت أنّ طموحاتها السياسية مرهونةٌ (ضمن عوامل أخرى) بالقدرة على الوصول إلى ساحل هذا البحر، فشيّدت بنيةً كبيرةً تمتدّ حتّى ساحل المتوسّط.
حقيقة أنّ اليهودية والمسيحية والإسلام نزل وحيها في هذه الجغرافيا حتّى قلب الجزيرة العربية، تؤكّد أنّ حوض البحر المتوسّط (بمعناه الأوسع) واحد من أكثر معالم "الجغرافيا المقدسة" أهمّيةً (القدس، مكّة المكرمة، المدينة المنورة، الناصرة، أرض السبي البابلي، طريق الخروج... ومعالم أخرى أقلّ شهرة وتأثيراً). ومن الصراع بين سرديات هذه القداسات جاءت روافد من أكثر روافد الصراع على فلسطين (الممسكة بالخاصرة الشرقية للبحر الأبيض المتوسّط) أهمّيةً، ولا ينفي هذا أنّ لإسرائيل دوراً وظيفياً يجعل الحاجة إليها منفصلةً عن بعض الدوائر بكل ما تعنيه للصهاينة غلاة اليمينَين المسيحيَّين الأميركي والبريطاني. ومن المفارقات المضحكة المبكية أنّ الوجود العسكري البحري العربي يكاد يكون غائباً غياباً تاماً، وبينما الأساطيل الغربية تأتي لتفرض على شرق البحر المتوسّط إملاءاتها. والبحر الذي كانت السيطرة العربية على القسم الأكبر من شواطئه لقرون من عوامل قوة الحضارة العربية الإسلامية الأكثر أهمّيةً، يشهد اليوم حصارَ جيب صغير في ساحله (غزّة الحبيبة)، بينما الغرباء يحرسون الحصار، والأشقاء يغضّون الطرفَ، والبحر الذي منه انسحب الصليبيون مهزومين يعود منه غزاة جُدد يحرسون نقطة الحراسة التي أنشأها الغرب، "مُقدَّسةً" كانت أو"وظيفيةً"، هي جيب استيطاني إحلالي سيكون للبحر الأبيض المتوسّط دور كبير في مشهد نهايتها.
فهل عاد المتوسّط ليكون أحدَ صنّاع التاريخ؟