"دولة البكتاشية" حرب تلوح في الأفق
فجأةً، امتلأ فضاء الإعلام من "نيويورك تايمز" مروراً بمواقع رصينة مثل بي بي سي ويورونيوز وغيرهما كثير، بمعلومات وتحليلات عن دولة جديدة ستضاف إلى خريطة العالم (على مساحة 24 فدّاناً)، وستكون دولة للبكتاشية. وتسابقت المنصّات الإعلامية في التعريف بالطائفة التي يثير تاريخها جدلاً كثيراً، لكن السياق والتوظيف السياسي فرضا نفسيهما على هذا المسعى الذي يثير من الأسئلة الكثير.
المشروع، كما ورد في التغطيات الصحافية الكثيرة التي تناولته، عمل يهدف إلى نموذج لإسلام ذي مواصفات خاصة، أهمها: قبول إسرائيل وإشاعة نمط حياة يجعل التسامح مقترناً بانتهاك المحرّمات الدينية كسلوك مقبول دينياً. ويلخص زعيم البكتاشية بابا موندي رسالة دولته قائلاً: "نحن نستحقّ دولة، فنحن الوحيدون في العالم الذين يقولون الحقيقة عن الإسلام، ولا يخلطونه بالسياسة". وتتقاطع الفكرة مع سياقات عديدة دينية وسياسية، تشغل الغرب وإسرائيل، وبالقدر نفسه، نخباً ثقافية وسياسية عربية تحارب منذ ما يزيد عن قرن لطي صفحة 1400 عام من فهم الإسلام وتفسيره. ويرى كثيرون من هؤلاء "القضية الفلسطينية" آخر ما تبقى من مفهوم "الأمة الإسلامية"، وأن انتصار المشروع الصهيوني (حتى لو لم تعلن ذلك مطلقاً) فرصة أخيرة لإنقاذ "الدولة الوطنية الحديثة" من بربرية الإسلاميين ... هكذا جزافيّاً!
وفي مشروع الدولة البكتاشية مفارقات، أولاها أن الذين حاربوا عقوداً لمنع الدين من أن يكون فاعلاً سياسيّاً (من انقلاب عسكر الجزائر على نتائج انتخابات 1992، إلى "الثورة المضادّة" لإجهاض ثورات شعبية أتت بإسلاميين إلى السلطة)، هؤلاء يسعون الآن إلى إنشاء نموذج "واجهته دينية"! وثانية المفارقات أن "الإسلام الفردي" الذي يفكك أي روابط "أفقية" تشمل أشكالاً من التجمع أو التنظيم أو العمل الجماعي لتحقيق أي أهداف دينية، ينشئ "دولة" يحكمها زعيم طريقة صوفية، لتحقيق هذا الهدف. والمفارقة الثالثة أن جهوداً طويلة، فاشلة طبعاً، لنفي أن يكون في الدين أي حقيقة تتصف بالقداسة والثبات ولا تقبل التأويل، هم أنفسهم يدّعون أنهم وحدهم من يقولون الحقيقة عن الإسلام.
بميلاد هذه الدولة، سيشهد التنازع على التعبير عن الإسلام مرحلة شديدة الخطورة
وغير المعلن أن المشروع طلقة أولى في "حرب غيبيات" كبرى ستبدأ، بعدما أكّدت التجربة استحالة احتواء المؤسّسات الدينية الأكثر تأثيراً في إطار مشروع صهيوني – غربي يحقق مشروعية دينية للمطامع الصهيونية – الغربية، فلا الأزهر ولا غيره قبل السير في موكب "الاتفاقيات الإبراهيمية"، وما انطوت عليه من استخدام مسيس جدّاً لمكانة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، لتمرير قبول المشروع الصهيوني كـ"آخر" يجب قبوله، ويجب منحه صكّ الشرعية الدينية.
وبميلاد هذه الدولة، سيشهد التنازع على التعبير عن الإسلام مرحلة شديدة الخطورة، وبخاصة أن الحاجة الماسّة إليها صهيونيّاً وغربيّاً يجعلنا نرجّح (على نحو قريب من القطع)، أنها ستكون موضوع جهد ترويجي كبير. والسعي إلى إعادة بناء فهم المسلمين للإسلام (وبخاصه ثوابته العقائدية والشرعية)، سواء جرى بالإغواء أو القمع، ليس مرشّحاً للنجاح، لكنه لن يمر من دون خسائر، فالخوف الرسمي العربي الواسع من أي حضور للإسلام في الفضاء العام بمعناه الواسع يتلاقى مع رغبة صهيونية – غربية في إنهاء كل أشكال مقاومة المشروع الصهيوني، وكل أشكال مقاومة فرض نمط الحياة الغربي. ورغبة بنيامين نتنياهو في السيطرة على قطاع غزّة لتنشئة جيل لا يكره الاحتلال ويتعايش معه، هو الوجه الآخر لرغبة نظم حاكمة عربية في إخلاء الفضاء العام من أي حقائق تتسم بالصلابة والوضوح والثبات، وتخلق أي رابطة أفقية يمكن، ولو على سبيل الاحتمال، أن تعيد، ولو على المدى البعيد، مفهوم "الأمة الإسلامية" إلى الحياة. والعلاقة بين العقائد والمصالح ومشاريع الهيمنة حقيقة لا يجوز إهمالها، وتوهم بعضهم أنه يستطيع إعادة صياغة الشرق الأوسط بإبادة الفلسطينيين، يظل دائماً في حاجة إلى ما يمكن تسويقه كـ"مرجعية دينية"، بالكذب، ثم بالكذب، ثم بالمزيد من الكذب. وإن اقتضى الأمر أن يقرّر الغرب أن يختار هو: "الممثل الشرعي الوحيد للمسلمين"، وأن يفرض ذلك على المسلمين بقرار دولي، ولنتذكر قبل الاستهجان والامتعاض من غرابة الفكرة، أن الكيان الصهيوني نشأ وعاش استناداً إلى إرادة غربية لم تترك حجة مصطنعة إلا استخدمتها، و"دولة البكتاشية" ستكون الإصدار الثاني من الكيانات الاستطيانية الإحلالية، لكن في عالم الغيبيات والعقائد.