لماذا على مصر التفكير في أمنها القومي بشكل مختلف؟
تشير تقارير غربية وإسرائيلية عدة إلى أن دولاً عربية، ومنها مصر، تساند إنهاء حركة حماس وحركات المقاومة الفلسطينية وربما العربية. وليس هذا توجّهاً جديداً للنظام الحالي في مصر، بل تأسس في عهد حسني مبارك، وبالتحديد منذ فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية في في يناير/ كانون الثاني 2006، ثم حكمها قطاع غزة، حيث اعتبرها بداية النهاية لحكمه، وروّج مقرّبون من النظام حينها أن مصر لا تريد إمارة إسلامية على حدودها في مقارنة سخيفة وسطحية حينها بين حركتي طالبان وحماس، وفي محاولة للاندماج بدور وظيفي في الحرب على الإرهاب التي سادت العقد السابق على ثورات الربيع العربي، وبالتماهي مع مقولات أميركية لم تحل دون قيام الثورات على هذه الأنظمة.
ويصدر السؤال في عنوان المقال من تساؤلات عدّة بشأن الحرب الإسرائيلية الدائرة على قطاع غزّة وتبعاتها على نظرية الأمن القومي المصري وثوابتها، أو ما تبقى من تلك الثوابت، وأهمها أن التهديدات تأتي غالباً من الشرق، وأن غزّة خط دفاع مصر الأول، وأنها متى ما انهارت تنهار خطوط مصر الدفاعية، بغضّ النظر عن درجة التوافق مع النظام السياسي أو الإداري عموماً في مرحلة ما بعد الانهيار.
هذا ثابتٌ بالجغرافيا والتاريخ، وتضاف إليه من عوامل الجغرافيا والعوامل الجيوسياسية الاستراتيجية المرتبطة بالطاقة والاقتصاد وطرق التجارة الدولية هذه المرّة، ما يحتّم على مصر أن يكون لها موقف مغاير تماماً، وليس دوراً وظيفياً فيما يتعلق بالهدنة وخفض التصعيد وتنسيق المساعدات الإنسانية والطبية.
ليس هذا وقت تصدير كراهية المقاومة الفلسطينية والتسفيه منها، ولا وقت المزايدة عليها أو إدانتها أو لوم الضحايا
الأمر جللٌ هذه المرّة إلى درجة أن الصين تتدخّل بقوة وبرؤية مغايرة لما كان عليه موقفها السابق، وبالذات في تحرّكاتها بمجلس الأمن وتصريحات وزير خارجيتها ومسؤوليها على مختلف درجاتهم، وهي ترى، بوضوح، ممرّ التجارة الهندي الجديد الذي طرح في قمة العشرين الماضية، مهدّداً، وليس فقط منافساً لخططها في مبادرة الحزام والطريق، ويجعل هذا الممر الهندي الجديد من إسرائيل والهند متحكّمتين في التجارة بين الشرق والغرب، ويغيّر معالم المنطقة، ويخرّب توازنات القوى التي تسعى الصين إلى ترتيبها منذ عقد وربما أكثر.
لا ينبغي أن ننجرّ تحت سطوة الصراع الصفري المقيت مع تيار الإسلام السياسي إلى خزعبلات ترتيبات ما بعد "حماس"، وما إذا كانت قوات دولية أو أممية أو حتى للسلطة الفلسطينية أو حتى عودة إلى فكرة الإدارة المصرية إلى القطاع، أو تسليمه كاملاً لإسرائيل والقبول بالتهجير أمراً واقعاً مع قبول مكاسب اقتصادية مؤقتة هنا وهناك، وهي سيناريوهات تُطرح بصورة فجّة في الإعلام المصري منذ الأيام الأولى للحرب، فما بعد "حماس" بالنسبة لإسرائيل مخطّط أكبر يشمل التهجير، ثم مواجهة أية ردود فعل من مناطق التهجير ولبننة سيناء، وصولاً إلى احتلالها، فما سقطت غزّة تاريخياً إلا وسقطت بعدها سيناء.
حماس حركة تحرّر وطني وليست إرهاباً، وهذا موقف تبنّته دول غير مصر، وليس لها في الأمر ربع مصالح مصر القومية من هذا
يتجاوز الأمر هذه المرّة الخوف من "حماس"، سواء قبل النظام دعشنتها وشيطنتها وفقاً للرواية الإسرائيلية تماماً أو حتى رفض هذه الرواية، وتعامل معها بواقعية بوصفها طرفاً فلسطينياً فاعلاً، لم يؤذ أي نظام سياسي في مصر، بل وواجه عناصر من "داعش" في غزّة في مرحلة ما، ولم يتوقف التواصل المصري معها كإدارة أمر واقع لغزّة لا قبل 2013 ولا بعدها، فالخوف من انتقال عناصر "حماس" وسط المهجّرين كتخوف أمني يتماشى تماماً مع الرواية الإسرائيلية التي تقول بوحدة الهدف، وهو القضاء على "حماس".
الأمر الأهم والتهديد الأكبر للعملية الإسرائيلية في قطاع غزّة، وما يقوم به جيش الاحتلال من مجازر (إذا نحينا جانباً التبعات الإنسانية غير المسبوقة) أن هذه الأفعال الإجرامية لا تدفع سوى باتجاه مخطّط التهجير الذي يفترض أن مصر ترفضه نظرياً وخطابياً، والهدف الأساس للمخطط والتمسّك بأهداف بعيدة المنال بهزيمة ساحقة لحركة حماس، سواء بتحييد قيادتها أو تدمير بنيتها التحتية وقدراتها العسكرية، أو حتى الحلم باستسلامها أو مغادرتها القطاع، الهدف الأساسي لهذا إتمام صفقة القرن ومخطّطات أبعد تصبو إلى استبدال قناة السويس بقناة بن غوريون، وتحكم دولة الاحتلال بالتجارة بين الشرق والغرب، وتصفر القيمة الاستراتيجية لمصر، وتجعلها تخسر مليارات الدولارات مما كانت تدرّه القناة، والتي هي عصب رئيسي للاقتصاد المصري. وإذا أرادت الحكومة المصرية أن نصدّق أنها ضد التهجير القسري لسكان غزّة فلا بد من عمل الآتي:
أن تُرسل لأهالي قطاع غزّة ما يثبتهم على أرضهم بكل السبل، من مستشفيات ميدانية ومستلزمات طبية وأطعمة، وكل ما يقتضيه الموقف، براً وبحراً وأرضاً، وذلك كله متاح من دون أن تخوض حرباً. وتبنى خطابٍ، ولو الحد الأدنى من المنطقية، أن هذه حركات تحرّر وطني وليست إرهاباً، وهذا موقف تبنّته دول غير مصر، وليس لها في الأمر ربع مصالح مصر القومية من هذا.
مخطّط التهجير يسير على قدم وساق، ولن يُفشل هذا المخطّط سوى صمود محور المقاومة على كل الجبهات
وبما أن سفير الاحتلال في القاهرة استدعته حكومته، فاستدعاء السفير المصري هو أقلّ من أضعف الإيمان، وعدم استدعائه غير مفهوم وغير مبرّر، بل ومُهين. ليكُن تواصل مصر أكثر مع الصينيين والروس، وسيأتي لها الغرب بنفسه، وستحصل على ما تريد من تمويل دولي، صار اليد التي توجِع مصر وتذلّها، ويستغلها الآخرون للأسف.
على الحكومة المصرية أن تتوقّف فوراً عن حديث المنّ بالمساعدات الأكثر من هزيلة، فبعد شهر من العدوان لم يدخل قطاع غزة أكثر مما كان يدخُل في يوم واحد قبله. وعليها أن تلجم "إعلام السامسونج"، فهذه مسألة أمن قومي كبرى وأولوية أولى، وهذا ليس وقت تصدير كراهية المقاومة الفلسطينية والتسفيه منها، ولا وقت المزايدة عليها أو إدانتها أو لوم الضحايا بأي شكل، بل هي أفضل قطعة بالشطرنج يمكن من خلالها تحقيق كل ما تريد من دون تنازل واحد. ولتقم مصر بأقصى تنسيق ممكن للمواقف وتقاسم المخاوف والإمكانات مع قطر وتركيا وإيران والأردن.
وأخيراً، لا بدّ من أن يكون هناك وعي شعبي حقيقي للمخاوف من صفقة القرن ومخطّطات استبدال قناة السويس بقناة بن غوريون وممر التجارة الهندي الجديد، فهذه تهديدات وجودية لمصر، وليس وجود المقاومة الفلسطينية هو ما يهدّدها. وغير ذلك لا يجب أن يكلم مصر أحدٌ عن وطنية أو انتماء ومزايدات فارغة، فمخطّط التهجير يسير على قدم وساق، ولن يُفشل هذا المخطّط سوى صمود محور المقاومة على كل الجبهات.