50 عاماً في عالم الصحافة
مرّ نصف قرن على أول مقال نشر لي، وكان ذلك في صحيفة المعرفة التي ولدت معها الحركة الإسلامية التونسية. لم أكن أتوقع أن ذلك المقال، البسيط في مفرداته ومعانيه، سيكون الخطوة الأولى في طريق طويل وعر ذي منعرجات ومطبّات ومخاطر عديدة، طريق الصحافة التي أخذتها مهنةً من دون دراستها في الجامعة. وبما أن السياسة والأيديولوجيا كانتا المدخل إلى هذه المهنة، فقد أصبح من الضروري كسب الخبرة والتقنيات التي من شأنها التحكّم في العلاقة بين الذات والموضوع.
عندما يلقي الواحد منا نظرة سريعة على مختلف المحطّات والتجارب التي مر بها خلال هذا المسار الممتع والمتعب، تبرز أسماء ومؤسّسات كانت لها بصمة مختلفة عن غيرها، فليس كل الذين اعترضوا طريقك يستوون في الوزن أو في الأثر. كانت بداية التحوّل والانتقال إلى عالم الاحتراف والنضالية مع صحيفة "الرأي" المستقلة، ومع مؤسّسها الطيب والشجاع المرحوم حسيب بن عمّار. هذا الرجل الذي انتقل في ظلّ أزمة حادّة في صلب الحزب الحاكم، من وزير دفاع في عهد الرئيس بورقيبة إلى معارض لسياساته، ومطالب بالحرية والتعدّدية. وهو ما جعله يُصدر هذه الصحيفة المستقلة التي لعبت دورا حاسما في تغيير المشهدين السياسي والإعلامي في تونس، بدأ من السنوات الأخيرة لمرحلة السبعينيات.
عندما التقيتُ به أول مرّة، طلبت منه العمل في صحيفته، لم يسأل عن أصلي وفصلي، وعن انتمائي السياسي والأيديولوجي، وإنما فتح لي كل الأبواب، ومنحني الفرصة التي غيّرت حياتي نهائيا. بذلك، وجدت نفسي متحرّرا نهائيا من الدائرة الضيقة للإسلاميين الذين يكتبون لأنفسهم بأنفسهم، ومندمجا في حراكٍ جديد تشارك فيه جميع تيارات النخبة المتعطّشة للحرية، والمتطلّعة إلى مستقبل مختلف. كل الذين لمعت أسماؤهم في عوالم السياسة والإعلام والثقافة في تونس مرّوا بتلك الصحيفة، وخاضوا غمار التجربة. تلاقحت الأفكار، وتقاطعت الأحلام، وبدأت الإرادة السياسية تلين تدريجيا بعدما استعملت القضاء أداة فاعلة لتعطيل الصحيفة مرّات كثيرة. وكلما وجد نفسه أمام حاكم التحقيق، أعاد الرجل العبارة نفسها: "افعلوا ما تروْن ونحن نقوم بما يمليه علينا الواجب". لاحقتنا البطالة في مناسباتٍ عديدة، لكن الرؤوس بقيت مرفوعة، والأقلام حرّة.
كم أشعر بالاعتزاز عندما أجد نفسي، بعد هذه الرحلة الطويلة التي تخلّلتها المتاعب والمناورات، أنتسب إلى عائلة أخرى تختلف عن أسرة "الرأي"، لكنها تلتقي معها في عديد القيم والمبادئ. فصحيفة "العربي الجديد" فضاء رحب ومجال واسع لممارسة المهنة بأساليب راقية، لكن في سبيل الدفاع عن الحرية وكرامة المواطن العربي المُداسة هنا وهناك.
انخرطت في هذه المؤسّسة المهمة بالسهولة والترحيب نفسيهما اللذين استقبلني بهما مؤسّس "الرأي". وجدتُ التشجيع والدعم من الدكتور عزمي بشارة الذي كنت أتابع نشاطه. وقد عُيّنت مديرا لمكتب تونس إلى جانب الزميل العزيز وليد التليلي، وأشعرني أيضا بكثير من الاحترام ومشاعر الأخوة والاهتمام. كما تعرفت إلى الرئيس التنفيذي لمجموعة "فضاءات ميديا" مؤيد الذيب. وتوثقت العلاقة بالزميل الودود معن البياري، وبزملاء آخرين. وعندما تعرّضت لجلطة قبل شهور، اكتشفتُ الطابع الأخلاقي لهذه العلاقات التي تتجاوز الاعتبارات الظرفية والزمالة، ورفعت الغطاء عن المعدن الحقيقي للرجال.
ليست المؤسّسات الإعلامية فقط لافتات وواجهات وقدرة على تجميع الكفاءات. إنها أيضا أسر تُبنى، وعلاقاتٌ تُنسج، وتجارب تُخاض، وآثارٌ تبقى في الذاكرة وفي النفوس. لسنا آلاتٍ تنتج وتسوّق، وإنما كائنات بشرية تحسّ، وتتأثر، وتعترف بالجميل، وتتألم، وتضعف، وتفرح، كما يمكنها أن تنتكس وتُصاب باليأس والتهميش.
لكلٍّ منا مسيرته الخاصة به، وأفكاره ورؤاه وأحلامه، لكن عالم الصحافة يبقى مثيرا بطبيعته، كاشفا خفايا الأحداث والدول والأنفس. المهم أن يقودك الحظ إلى الباب الصحيح الذي إن طرقته وجدت نفسك في الوجهة الصحيحة.
هكذا بدأتُ مغامرتي مع الصحافة، وهكذا وصلتُ إلى هذه المحطّة بعد خمسين عاما.