الجاليات تعلق الجرس

12 يناير 2015

مسلمون في فرنسا يتضامنون مع "شارلي إيبدو" (9 يناير/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
كتب زميل صحافي في باريس، أمس، على جداره في "فيسبوك"، أنه يشعر بالرعب، فبعد إقامته في باريس أكثر من عشرين سنة، أوقفته، لأول مرة، دورية شرطة في الشارع من بين كل المارة، لملامحه العربية، وفتشت محتويات كيس فيه مواد غذائية، كان قد اشتراها من سوبرماركت في طريقه.
ويعترف أن الحادثة جعلته يشعر أنه مشتبه به، وأنه محط اتهام صريح، بسبب لون بشرته وملامحه العربية، كان حدث الجريمة المدانة على الصحيفة الفرنسية (شارلي إيبدو) قرصة في الأذن جعلته يستفيق على واقع جديد في فرنسا اليوم.
الخوف من عواقب هذه الجريمة، وتداعياتها على المهاجرين العرب، والمغاربيين خصوصاً، يكاد يكون شعوراً جماعياً عند جاليةٍ أمضت عقوداً من إقامتها في أوروبا، وهي تقدم حسن السيرة والسلوك إلى بلدانها المضيفة، في عزلةٍ تامة، وتخلٍ من دول المنشأ، تلك الحكومات التي كانت تفرح فقط وتمشط شواربها في صيف التحويلات.
وخارج المرافق الرسمية، تُرك المجال الحياتي، ورمي حبل المجال الديني على الغارب، ووجدت تيارات دينية الفرصة سهلة للوصول إلى هاته الجالية التي تعيش محن الاغتراب والإقصاء.
في حين ولد الجيل الثاني والثالث من أبناء المهاجرين مسكوناً بعقدة "الأم" التي حاولت أن تورث لغتها وثقافتها مع حليب الرضاعة، لجيل كبر على المفارقات الصارخة بين البيت والشارع.
لم تكن هذه الأجيال الجديدة من المهاجرين مسكونة، كما هو الأمر بالنسبة لأقرانها في بلدانها العربية، بعقدة "قتل الأب"، لأن هذا الأب لم يكن له وجود فعلي في البيت، كان منفياً في مصانع السيارات، وفي ساعات العمل الطويلة والمضنية في حقول العنب والأوراش الصناعية.
كان أحمد ومحمد وهشام ونادية والمعطي وبهلول يكبرون في حجور الأمهات شبه الأميات، ويتلقون تربية تقليدية لا تختلف عن تربية "لبلاد"، وفي الشارع، هناك المدارس اللائكية والفوارق الصارخة، وحين أرادوا شيئاً يعبر عن هويتهم، وجدوا أحد شيئين، أغاني الراي المليئة بالحنين إلى الوطن ومسار الهجرة المأساوي، والمسجد الذي يذكّرهم بالجذور.
كان تحول الشباب المغاربي، على وجه الخصوص، إلى نوع من التأكيد الشديد على التديّن ملفتاً للمجتمع الحاضن، وحين طلبت فرنسا من دول المغرب العربي إرسال أئمة، ليعلموا هؤلاء الشباب أصول الدين الصحيح، كان الوقت قد فات، فقد سبقت عدوى المشرق إلى هؤلاء، وقضي الأمر.
لذلك، تشعر بالصدمة حين تعود الفتيات في الصيف المقبل في إطار "رحلة الصيف التقليدية نحو البلاد"، وقد تخلين عن تبرجهن، وغطين أجسامهن باللباس الأفغاني، وحين يصدمك النزقون من رفاق الأمس، وقد استبدلوا "جوني هوليداي" وأغاني البيسترو، وأفسحوا الطريق للحاهم كي تطول. هؤلاء الشباب الذين كانوا ينطقون كلمات عربية بشق الأنفس، صارت ألسنتهم أكثر طلاقةً في لهجة مشرقيةٍ لا تخفى.
كل هذه التحولات الجارفة، كرّت خلال ثلاثين سنة. الاستعداد الفطري كان موجوداً، والهروب من واقع بحبل بالمفارقات كان القاسم المشترك، في بحث جامح نحو هوية ملاذ. السياسيون العرب والباحثون وعلماء السوسيولوجيا وحراس المجال الديني، ظلوا جميعاً يلوكون كلاماً قديماً وجاهزاً، أما الحكومات فكان همها الأول ألا يعود هؤلاء إلى الأوطان، ويطالبوا بإصلاحات على غرار ما يعيشون في الغرب.
الفجوة في المهاجر ستتسع، لنترك الكلام المعلب والجاهز جانباً. فعلى الأرض وفي الواقع، هناك ملايين من العرب والمسلمين يعيشون في الغرب، وهم، في كل الأحوال، أقليات، ستضرر بردود الأفعال الصبيانية من بعضهم، وبأخرى غير مسؤولة، وبثالثة متشفية، وسينتهي الأمر بهذه الجاليات إلى أن تعلق الجرس فعلاً، حين يصبح الهاجس الأمني سيد الموقف وذريعة لقوننة الانتهاكات، فمن يحمي هؤلاء؟ حكومات مفلسة؟
6A0D14DB-D974-44D0-BAC8-67F17323CCBF
حكيم عنكر
كاتب وصحافي مغربي، من أسرة "العربي الجديد". يقول: الكرامة أولاً واخيراً، حين تسير على قدميها في مدننا، سنصبح أحراراً..