إعلان مدينتي في مصر .. الصراع الاجتماعي والدعاية السياسية

15 مايو 2020
+ الخط -
للعام الثاني، تثير إعلانات المشروع السكني "مدينتي"، الحوار والتجاذب بين المصريين، لما حملته من إشاراتٍ وعباراتٍ صريحة، تتصف بالتمييز والعنصرية والتعالي، أو رآها قطاعٌ كبير هكذا، عدا عن اعتماد الإعلان على إبراز المفارقات بين حياة سكان "مدينتي" ومن خارجها، فضلا عن مبالغاتٍ تصوّرها الجنة المأمولة، وأن سكانها يشكلون طبقة وثقافة واحدة "شبه بعض". أغلب ردود الأفعال، خصوصا الشبابية، تعبّر عن حالة أزمة مركّبة، ليست وحسب ما يتعلق بنمط الحياة وطبيعة العمران ومشكلات السكن، ولكن أيضا مشكلات التعبير عن التفاوت الطبقي، سياسيا واجتماعيا، والتي تمظهرت في ردود الأفعال في وسائط التعبير الإلكتروني. ويتضح من تحليل مضمون بعضها الغضب من مظاهر التفاوت الطبقي، اجتماعيا واقتصاديا، ورفض اللغة الدعائية التي وصفت بالفوقية والتعالي، وهو مظهر ثقافي للتفاوت الاجتماعي، فضلا عن إشكالية المبالغات والمغالطات التي أصبحت ضمن سمات الدعاية الإعلانية السياسية على حد سواء. المستهدفون من الإعلان محدودون، وهم القادرون على التملك فيها أو في ما يشبهها (تتجاوز أسعار بعضها خمسة ملايين جنيه)، بينما ينتمي أغلب المشاهدين لطبقات شعبية وفئات وشرائح دنيا من الطبقة الوسطى، ويعانى أغلبهم من بؤس نمط الإسكان السائد، والذي تغلب عليه العشوائية وسوء التخطيط ونقص الخدمات. 
اللافت في إعلان "مدينتي"، وهو يعد رسالة وهدفا أساسيا له، أنه دعاية شخصية بامتياز، لا تخلو من السياسة، بجانب هدفه الترويجي الباحث عن مشترين، في ظل توقعات بتراجع سوق العقارات، إعلان دعاية لصاحب المشروع ومؤسسة، رجل الأعمال المصري هشام طلعت مصطفى، حيث يوظف المشروع الاقتصادي للدعاية السياسية، ويستخدم العام لترويج هدف خاص يستهدف إعادة بناء الصورة التي لحقها تشوّه، يتضح ذلك من تكرّر المديح لصاحب المشروع خلال الإعلان الطويل نسبيا (ثلاث دقائق). يأتي الإعلان وكأنه مرافعة للدفاع عن الشخص 
المؤسس، وترويج له شخصيا، فهو المفكر المنشئ، ومخطط منظومة المدينة وواضعها، ومن صفاتها الرقي ضد الانحطاط، التقدّم ضد التخلف، والنظام ضد العشوائية، حتى سكانها يسمعون الموسيقى الراقية في زمن حظر كورونا، فصول العام مختلفة، الخريف والربيع فيها مغايران عن سواهما، والسيول فيها غير خطرة كما تروج دعاية صحفية. "مدينة عالمية على أرض مصرية"، صاحبها يبيض صورة البلد، غير أنه نموذج وطني لمستثمر ناجح صاحب تاريخ مشرّف، يحافظ على استدامة الموارد، ينمّي ويعمّر ويخلق مجتمعا جديدا آمنا، يلبي أحلام سكان المدينة التي أراد أن يحولها إلى وطن، ينتمي إليه سكانها المتميزون طبقيا وثقافيا ورياضيا وفنيا، مقابل آخرين لا يشعرون بالانتماء إلى شيء، مغتربين ومحرومين.
يمثل الإعلان نموذجا للدعاية في النمط السلطوي الذي يركز على دور القائد الملهم، الحكيم، الذي يبني الوطن، يتصدّى للأفكار الهدامة، وأصحاب النفوس غير السوية والأغراض غير الوطنية، والطابور الخامس الذين، للمصادفة، اتهموا بأنهم المحرّضون على الهجوم على طلعت مصطفى.
بمقاربة أنثروبولوجية، النمط السلطوي، في نسخه العربية، يستمد دعايته من مجتمع قبل الحداثة، يركّز على الانتماء الأولي، الدين والقبلية والجهة، المنطقة، ويشكّل زعيم القبيلة، العشيرة، الطائفة، الرئيس، صاحب المؤسسة وقائدها، رئيس مجلس الإدارة، رجل الأعمال الرمز الذي يتمتع بأخلاق وحكمة وبصيرة وتفانٍ وعبقرية تمثيل المؤسسة، ولا أحد يذكر بجانبه، فهو الرمز والعلم، ومن دونه مستخدمون وأعوان وسكرتارية. وهنا تتجلى أهمية التلميع وتضخيم الذات وأمراض النرجسية، والإحساس الدائم بالتمييز الطبقي والنفسي والاجتماعي وامتلاك القوة والنفوذ والهيمنة وحب المديح. وكل ما سبق من إشباع ضروري لمن في مواقع السلطة والهيمنة الاقتصادية والسياسية، وحتى الثقافية، يتطلب الدعاية التي تمثل لهم سحرا، ويشعرون بأثرها كالإدمان. مجالاتها ممتدة من النشاط السياسي إلى الأسواق الاقتصادية، ومتقاطعة الاتجاهات والأهداف، بل والمنهج والمحتوى، وربما تكرار العبارات.
والإعلان عملية اتصالية تحمل رسائل وأهدافا عدّة، إعلام يهدف إلى الترويج والمكسب 
الاقتصادي. ولا يخلو في حالة "مدينتي" من إعادة أو تثبيت لمكانة وصورة لحقها تشويه، بعد أن باتت عوامل سياسية وجنائية تنتقص منها، الإعلان تكتيك يستهدف التأثير في الوعي ورسم الصورة، تلميع لأصحاب المؤسسة البطل المنجز، ربط العام الاقتصادي بالشخصي والعكس. الغالب في الدعاية ترويج المنتج، إلا أن الاتصال والتزاوج بين الحالتين قائم. إعلان مدينتي دعاية لوحدات سكنية ولصاحبها. يمكنك في مقاربة بسيطة تذكر المثل "كوهين ينعى ابنه ويصلح الساعات". كما يعيد الإعلان طرح الوجود السياسي لهشام طلعت مصطفى، ودوره "الوطني" بجانب النظام وتطوير البلد، من خلال مؤسسة ضخمة، مكانة لفاعل اقتصادي تربطه بالمؤسسات السياسية علاقات مصالح قديمة ومتجدّدة. كان قياديا في لجنة سياسات الحزب الوطني الذي التحق به بداية التسعينيات، ورئيس لجنة الإسكان في مجلس الشورى. يُحجز لهشام طلعت مصطفى كرسيه متقدما الصفوف في مؤتمرات الشباب. أفرج عنه بعفو صحي بعد إدانته بالتحريض على قتل الفنانة اللبنانية سوزان تميم عام 2008 (استبدل حكم الإعدام في سبتمبر/أيلول 2010 بالسجن 15 عاما). تبرع الرجل لصندوق "تحيا مصر" وجهات أخرى مرات عديدة في الحقيقة. صحيح أن التبرّعات تخصم من الضرائب، إلا أن ذلك لا يلغي الجانب الدعائي أيضا. وللمفارقة، الإعلانات والدعاية أسلوب حداثي، إلا أن تقديم دية مقابل جريمة يماثل علاقات المصالح في القبيلة، كنظام اجتماعي وسياسي مركّب، تسود فيه أحكام عرفية بدلا من القانون، أو تعاد صياغة القانون حسب مصالح زعيمها ومجلس الحكماء أو الطبقة الحاكمة.
من نوافل القول إن ثورة 25 يناير، وعلى الرغم مما لحق بها من هزيمة، فتحت ملفات 
الاستحواذ على أراضي الدولة بأسعار بخسة، منها أراضي مدينتي "سعر المتر أقل من جنيه"، لكن محاولات إعادة تقييم سعر الأراضي فشلت، وأغلقت القضايا بحكم توازنات قوى لصالح رجال الأعمال.
إعلانات هشام طلعت مصطفى وزمرته عموما تنطلق من دعم المكانة الاعتبارية والصورة الذهنية لرجال الأعمال وتصويرهم وطنيين يستحقون الاحتفاء والشكر والتقدير، بناة الوطن والمستقبل داعمي النمو، مصادر للتوظيف، ومصادر للدخل عبر دفع الضرائب، داعمي الدولة والنظام وقيم الاستقرار والأمان والتميز.
تثبت المقاربة تماثل رجال الأعمال في أساليب دعايتهم وإعلاناتهم مع شخص الحاكم، القائد، الذي يتلقى المديح ويحظى بالتقدير. أهل "مدينتي" يشكرون مؤسّسها، يمتدحونه، ويحبونه، يشعرون بقربه منهم، كبيرهم ورمزهم، على حد تعبير أحدهم "عمو هشام" الذي بنى المدينة بقلبه، غير إعلانات ومواد إعلامية عن مسيرة المؤسس وتاريخه، وكيف تغلّب على الصعاب والمؤامرات والتحدّيات. الإعلان أيضا وسيلة لتقديم الأفكار والأشخاص ودعم الأدوار، رسم الصورة، وكسب التأييد وصناعة موقف أو تغييره.
ويبقى موضوع العلاقات المتشابكة بين الدعاية الاقتصادية والسياسية مستمرا. وتكشف التفاصيل عن ما بينهم من اتصال، فالحملات السياسية تركّز على شعاراتٍ أقرب إلى سياسة السوق، كشعار "الحزب الوطني في مصلحتك". وتتضمن الحملات الاقتصادية شعاراتٍ أقرب إلى السياسة في التسويق السلعي، كشعار "مجموعة طلعت مصطفى بناة المستقبل"، في مقاربة لشعار "عشان يبنيها" وشعار سابق "الشباب اللي بجد بيبني مش بيهد"، والشيء بالشيء يذكر، فإن الشركة المنفذة إعلان "مدينتي" هي ذاتها التي نفذت دعاية مرشحي مجلسي الشورى والشعب أعضاء الحزب الوطني (2007 - 2005) وحملة الانتخابات الرئاسية لحسني مبارك (2005)، كما ساهمت الوكالة في الحملات الدعائية للرئيس عبد الفتاح السيسي. يدل ذلك كله على قدر التشابك بين الدعاية الاقتصادية والسياسية وما بينهما من اتصال. ويبقى البعد الدعائي، الشخصي والسياسي، مهماً، كما التفاوت الاجتماعي في إعلان "مدينتي". هناك من يريد التنافس والمزاحمة على الوجود وجذب الانتباه والاستحواذ على العقول وتشكيل الوعي، كما هو الوضع قائم في الدعاية السياسية من رغبة في التأييد والحشد وكسب التأييد أو فرض الهيمنة والسطوة وإزاحة الآخرين.
دلالات
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".