مصر في مواجهة تداعيات احتلال محور صلاح الدين
مع استمرار الحرب تواجه مصر تداعياتٍ عدّة، أخطرها على مستوى، أمني إصرار الاحتلال الإسرائيلي على البقاء في محور صلاح الدين (فيلادلفي) وحشد قواته في الحدود، ولا تبدو عملية اقتحام رفح برّيا نهايةً للحرب التي قاربت العام، خاصّةً مع نياتٍ إسرائيلية بتهجير ما تبقّى من سكّان الشمال (250 ألف بتقديرات الأمم المتّحدة)، وإقامة مناطقَ عسكريةٍ عازلةٍ شمالاً وجنوباً، بجانب الأراضي المجاورة لمستوطنات غزّة، ما يُقلّص مساحةَ القطاع إلى الثلث، بحسب تقديرات، هذا إلى جانب تعيين ضابطٍ لإدارة القطاع، وتحقُّق هذا السيناريو يعني بقاء المواجهة فترةً أطولَ. ومن النتائج المباشرة على مصر في ملفّ الحدود، إحداث وضعٍ ضاغطٍ على مستوى أمني، يتطلّب تكثيف أعمال الرقابة والاستجابة السريعة من التشكيلات الدفاعية، وحتّى مع إضعاف فصائل المقاومة الفلسطينية، فإنّ المواجهة مع المحتلّ، رغم التضحيات الكبيرة متعدّد الأوجه، لن تنتهي إلّا برحيله عن القطاع، واحتمال تشكّل مجموعات مقاتلةٍ جديدةٍ تشنّ هجماتٍ ضدّ نقاط تمركز قوات العدوّ، بما فيها مدينة رفح، مُرشّح للتحقّق، كما جرى قبيل الانسحاب من القطاع في العام 2005. ومن بين تداعيات بقاء الاحتلال في طول محور صلاح الدين (14 كيلومتراً)، تقيّد عمل معبر رفح، ما يُفاقم الأزمة الإنسانية لسكّان غزّة، وينال من دور مصر وصلاتها مع القطاع، وفى الأحوال كلّها، خرق إسرائيل اتفاقاتها مع مصر يتطلّب ردّاً مكفولاً وفقاً للقانون الدولي، بحكم أنّ عدوان الاحتلال يُضرّ مصالح واستقرار مصر، وأمن الحدود خصوصاً.
ميدانياً، لن تستطيع قوات الاحتلال البقاء في قطاع غزّة بالكثافة نفسها، بسبب ارتفاع التكلفة وتخطيطها لمواجهات أوسع مع لبنان، دالٌّ عليه توجهات حكومة الاحتلال أخيراً، والهجومان على لبنان، الثلاثاء والأربعاء، اللذان أدّيا إلى تفجر أجهزة اتصال محمولة، ما أسفر عن إصابة ثلاثة آلاف شخص، بينهم مائتا حالة خطرة، وإن لم تعلن تلّ أبيب مسؤوليتها، وتنكّرت واشنطن، فإنّ العملية تأتى ضمن مواجهة تتوسّع، ومن الممكن أن تتطوّر اشتباكاً برّياً، هذا بجانب احتمالات شنّ هجمات انتقامية ضدّ الحوثيين جوّاً وبحراً، بعد إطلاقهم صاروخاً مُتقدّماً تقنياً، وصل إلى أجواء الاحتلال في وقت قياسي، ويعتبر حزب الله والحوثيون هجماتهم رهينةَ وقف العدوان على غزّة، بينما ترى تلّ أبيب المواجهة ممتدّةً ضدّ "أهداف إرهابية"، بمشاركة واشنطن تحت راية تحالف دولي، في وقت نفت الخارجية الأميركية علمها المُسبَق بالهجوم على أجهزة اتصالات في لبنان، وحذّرت إيران من التسرّع والتصعيد.
وسبق أن وضع بنيامين نتنياهو توقيتاً لانتهاء الحرب في غزّة في الربع الأول من العام المقبل، ما يعني التقدّم في سيناريو مواصلة الحرب، وإن خفّت وتيرة العمليات في غزّة، مع عدم اكتراث لوضع النازحين، وفشل تشكيل مجموعاتٍ تتولّى تأمين وإدارة القطاع، بما في ذلك مشاورات الإمارات مع جيبوتي والمغرب للمشاركة، أو خيار استقدام قواتٍ تابعةٍ للسلطة الفلسطينية، تدرّبها مصر حال موافقة حركة حماس. ومع اختلاف السيناريوهات، الواضح أنّ إسرائيل تضع هدفَ السيطرة على مجمل الحدود هدفاً لتحقيق النصر في الحرب.
لن تستطيع قوات الاحتلال البقاء في قطاع غزّة بالكثافة نفسها، بسبب ارتفاع التكلفة وتخطيطها لمواجهات أوسع مع لبنان
وإذ ما عقدت صفقة تبدأ بهدنة ستّة أسابيع، تسعى واشنطن إلى الوصول إليها في جولة جديدة لوزير الخارجية أنتوني بلينكن، فلا يمكن الثقة في وعودٍ بانسحابٍ تدريجيٍّ من محور صلاح الدين، وسبق أن وعدت واشنطن بالضغط على إسرائيل لتغير موقفها، وكانت المحصّلة تحوّل شرط الانسحاب من المحور من تكتيك للضغط وأداة مماطلة إلى هدف استراتيجي، وهو ما تدعمه مُؤشّرات ميدانية، كما إقامة حواجزَ عسكريةٍ وبناء أبراج مراقبة، وتعبيد مساحة 12 كيلومتراً، مطلع الشهر الجاري، لتسهيل عمل الدوريات العسكرية، التي قالت إسرائيل عنها، فى جولات تفاوض أغسطس/ آب الماضي، إنّها ستكون محدودةً.
استُخدِم المحور عُقدةً لقطع الطريق على جهود الوسطاء لإقرار اتفاق يقضي بتبادل الأسرى، ووقف العدوان، وقبلها قرّر كابينت الحرب البقاء في المحور، ما زاد نقاطَ التفاوضِ وخفَّض سقفَ المطالب الفلسطينية، ووضع مصر في الواجهة، لتتحوّل غزّة موضوعاً مصرياً، كما قال رئيس الوزراء الأسبق أرييل شارون قبل انسحابه من القطاع، واكتملت الصورة مع مؤتمرَين صحافيَين (2 و4 سبتمبر/ أيلول)، ركّز نتنياهو فيهما على نقد القاهرة، وحمَّلها مسؤولية تهريب الأسلحة، ما ساعد في هجوم 7 أكتوبر (2023)، واعتبر الانسحاب خطأً فادحاً عارضه في 2005، ولن يتكرَّر، مُعلناً السيطرة على الحدود (بما فيها الأردنية واللبنانية) هدفاً مُستجِدّاً ومكمّلاً لأهداف الحرب، لمنع تهريب الرهائن، ووقف تدفّق السلاح، وسمَّى المطالبين بالانسحاب "محور الشر"، ما يجعل الخطاب ابتزازاً لمصر، ودليلاً على تصاعد هجوم دبلوماسي رسمي، وهو ما أعلنت القاهرة رفضَه، واعتبرته تبريراً للسياسات العدوانية، ويمثّل تصعيداً يُؤزِّم الوضعَ، وتضامنت معها أطرافٌ عربيةٌ؛ قطر والأردن والسعودية.
احتلال معبر رفح مُختبَر حقيقي للعلاقات المصرية الإسرائيلية، ودالّة على إخفاق رهان سابق على دعمها من خلال "صفقة القرن"
مجمل الصورة، أنّ احتلال معبر رفح مُختبَر حقيقي للعلاقات المصرية الإسرائيلية، ودالّة على إخفاق رهان سابق على دعمها من خلال "صفقة القرن"، وعلى خطأ فرضية وجود فرص لسلام دافئ تُوثِّقه العلاقات الاقتصادية، منها ملفّ غاز شرق المتوسط. كما يتّضح في العدوان على غزّة أنّ النهج التاريخي الإسرائيلي من العداء والتربّص لم يتغيّر، بما في ذلك تجاوز معاهدات واتفاقيات سلام، ما يجعل مصر في حالة مواجهة، وطرفاً يفاوض، ما يحدّ من فاعلية الوساطة، إضافة إلى أعباء تأمين الحدود في ثلاث جهات تشهد حروباً وصراعاتٍ مسلّحةً (ليبيا والسودان وغزّة) غير تداعيات الحرب اقتصادياً، لذا بات وقف الحرب في غزّة ضرورّياً ومصلحةً ذاتيةً لمصر، وليس موقفاً تضامنيّاً مع الفلسطينيين وحسب، تدعمه علاقات الجوار وفصول التاريخ المشترك. وتفرض الأزمة، تغيير توجّهات القاهرة، ومراجعة وإعادة تعين التحالفات، وعلاقاتها مع دول وتكتّلات على صعيد دولي وإقليمي، سواء لبناء صلات وعلاقات مُستجِدّة أو دعم القائم منها فعلياً، بما يُقوّي موقفَها ويحدّ من فرص تصاعد الحرب.
وفي هذا الاتجاه، عزّزت القاهرة علاقاتها مع دول لعبت دوراً سابقاً في مفاوضات السلام، منها إسبانيا والسويد والنرويج، ويركّز الخطاب الرسمي على أنّ تحقيق الاستقرار يتطلّب معالجةَ جذور الحرب بإقامة الدولة الفلسطينية في حدود 1967، وهو ما بدا خطّاً مستمرّاً مع دول من الاتحاد الأوروبي، واستقبلت القاهرة الممثّل السياسي للاتحاد جوزيب بوريل، بينما رفضت إسرائيل زيارته بدعوى أنّه منحاز للفلسطينيين، وشاركت مصر في مؤتمر "من أجل دولة فلسطينية"، مع مجموعة الاتصال الوزارية لجامعة الدول العربية ومنظّمة التعاون الإسلامي. كما دعا وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، في مؤتمر صحافي في موسكو مع نظيرة الروسي، مجلس الأمن إلى القيام بدوره ضدّ انتهاكات إسرائيل في محور صلاح الدين، والقتل الممنهج للفلسطينيين، مع ضمان نفاذ المساعدات من دون قيد، ما يعني أنّ المحور قد يكون موضوعاً للشكوى أممياً ضمن مسار قانوني، كما توجّهت القاهرة في سلسلة من المشاورات مع المنظّمات الدولية فيما يتعلّق بأدوارها الدفاعية والإغاثية، والترتيب لزيارة مسؤولين للمعبر ضمن حشد القوى الدولية من أجل دور إغاثي تعرقله إسرائيل، مستخدمةً سلاح التجويع ضدّ سكّان القطاع، وربّما يشهد المعبر وفوداً جماعيةً، تمثّل مؤسّسات الإغاثة وشخصيات دولية وإقليمية، في نوع من الضغط على حكومة الاحتلال.
وقف الحرب في غزّة مصلحة ذاتية لمصر، وليس موقفاً تضامنيّاً مع الفلسطينيين وحسب
وفى تحرّك يُعبّر عن اهتمام يتزايد بمخاطبة القوى الفاعلة في الشرق الأوسط المعنية بالصراع، زار السيسي تركيا، والتقى رجب طيّب أردوغان للنقاش في ملفّات عدّة، بينها الوضع في غزّة، بالتزامن مع تنشيط الاتصالات مع طهران، وسبق أن طلبت القاهرة من سلطنة عمان إبلاغ رسائلَ للحوثيين حول قناة السويس، الذين اعتبروا تحرّكاتهم تسعى إلى مساندة الفلسطينيين لا الإضرار بالقاهرة، التي يمكن أن تستفيد مستقبلاً من تقليص فرص تواجد مشروعات ملاحية إسرائيلية، وتسعى القاهرة بالتشاور مع الرياض إلى ترتيب لقاء يجمع الأطراف اليمنية، وضمن نشاطها إقليمياً، وتواصلت مع إيران بشكّل أكبر بعد زيارة وزير الخارجية للمشاركة في تنصيب الرئيس الجديد مسعود بزشكيان، سبقتها زيارةٌ لسامح شكري خلال مايو/ أيار الماضي، وهو ما يُعَدُّ تغيّراً نسبياً في توجّهات القاهرة، التي كانت مُبتعِدةً عن طهران منذ الثورة الإسلامية 1979، باستثناء زيارة الرئيس الراحل محمد مرسي طهران في 2013، لحضور مؤتمر عدم الانحياز، إذ فرضت الحرب (والثورة أيضاً) مساراً جديداً في تحرّكات مصر، بما فيها تقوية الصلات بقوى الشرق الأوسط؛ إيران وتركيا والسعودية، رغم التباينات، وفتح خطّ اتصال مع الحوثيين وحزب الله، في مقابل التفكير في تخفيض مستوى العلاقات مع إسرائيل بناءً على جولة العدوان على غزّة، ومواقف تلّ أبيب، التي حذّرت القاهرة من تداعياتها على اتفاقية السلام، وطالبت أطرافاً أوروبية وواشنطن بالضغط على إسرائيل، لكن في المقابل لم تُتَّخذ خطواتٌ كالانضمام إلى دعوة جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، لكن لا ينفي ذلك إمكانيةَ التحرّك القانوني رغم قيود اتفاقية السلام، وإنْ كانت القاهرة تشير إلى إمكانية تعطيل بعض بنودها إجرائياً، وقد أخّرت اعتماد سفير إسرائيل الجديد، ورفض بعض مسؤوليها تلقّي اتصالات، مع التحفّظ على استضافة جولات تفاوض جديدة، وهو ما اعتُبر ردّاً دبلوماسياً على احتلال محور صلاح الدين.
جاءت زيارة رئيس الأركان المصري، الفريق أحمد خليفة (5/9/2024)، الجانب المصري من معبر رفح، ضمن تحرّكات ميدانية في الحدود، تطمئن الرأي العام، وتُعلن حالة الاستعداد لأيّ مهام في الحدود، بما يُظهِر لتلّ أبيب أنّ القاهرة تحشد قوّاتها ولديها ما تظهره من قوّة وقدرة على الردّ على تجاوز إسرائيل بنود تقييد التسلّح في محور صلاح الدين، بنفس الخطوة من حشد الجنود واستعراض العداد العسكري، وإعلان تمسّكها بحتمية الانسحاب الإسرائيلي.