في علاقة تعثر مفاوضات غزّة باستراتيجية الردع
تواصل حكومة تل أبيب المماطلة في جولات التفاوض الهادفة إلى وقف العدوان وتبادل الأسرى، والانسحاب من قطاع غزّة. وكانت مباحثات وفود أمنية إسرائيلية في القاهرة بخصوص ما سُمي سد الفجوات تتركز على معبر رفح ومحور فيلادلفيا، وقد قدم وزير الخارجية الأميركي بلينكن في زيارته التاسعة للمنطقة حلولاً وسطاً بشأن حجم الوجود وإدارة المعبر، لم تتجاوب معها تل أبيب، في تأكيد لاستمرار التسويف، الذي يرتبط باستراتيجية استعادة الردع، وهي تستعد لخوض مواجهة شاملة وتحدي كل الأطراف. ولا يرجع التعثر في التفاوض، وحسب، إلى أهداف شخصية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي كان يخشى، بعد 7 أكتوبر، التعرّض لضغوط داخلية، كما غولدا مائير، التي استقالت في إبريل/ نيسان 1974، بعد حرب أكتوبر 1973، ومصير بيغن، أحد قادة الليكود الذين تبنّوا استراتيجية الردع (هاجم المفاعل النووي العراقي عام 1981) وتسبب غزو لبنان جزئياً في استقالته (أكتوبر/ تشرين الأول 1983). ورغم حسابات نتنياهو، الذي يواجه اتهامات بالفساد، إلا أن دوافعه ليست سبباً وحيداً للمماطلة، كذلك فإن التركيز على دور الأفراد في الحروب، والانسياق خلف دعاية معارضيه يهمّشان عوامل موضوعية أخرى في استمرار الحرب، بما يشكّل صورة منقوصة.
داخلياً، هناك قوى سياسية توافق على استراتيجية استعادة إسرائيل الردع، طريقةً لعودة الاستقرار وتجاوز صدمة 7 أكتوبر، وتحقيق إحساس بالنصر، وضمنها حفظ أمن الحدود، وتوسيع مفهومها، والارتكاز على العمل العسكري بدرجة أكبر. وقد عبّرت مراكز أبحاث عدة، وقادة رأي عن هذا التوجه، ونشر معهد دراسات الأمن القومي (INSS) في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 دراسة عن الردع وهجوم 7 أكتوبر، وهو الذي سبق وناقش مسألة القوة العسكرية، وإصلاح الجيش وتعديل مهامه، مع وضع سيناريو لنشوب صراع متعدّد الجبهات بما يوجب التركيز على الحدود أداةَ دفاع وتكتيك في الوقت نفسه. كذلك أعاد معهد القدس للاستراتيجية والأمن (JISS) ومركز بيغن السادات للسلام مناقشة استراتيجية الردع ومسألة الحدود بما فيها محور فيلادلفيا. وبجانب ذلك، تتكرر خطابات لقادة سياسيين، يحفزون الرأي العام ويثبتون خيار الحرب، ما ينعكس على استطلاعات عدة، وحتى مع تباين نسبي في نتائجها، بين ذلك استطلاعات متتابعة لمعهد دراسات الأمن القومي. وأخيراً، أعلنت هيئة البث الإسرائيلية توجهاً غالباً يدعم الحرب، وارتفاع أسهم نتنياهو والليكود، الذي يتبنّى تاريخياً عقيدة الاستعداد للحرب طريقاً إلى السلام بجانب التحالفات الإقليمية والدولية ودعم الجبهة الداخلية، ولا يتعارض ذلك مع مطالبات بإقرار صفقة تبادل الأسرى، التي تخرج بشأنها مظاهرات محدودة، قياساً باحتجاجات ضد تعديلات قانون السلطة القضائية، ما يفيد بأن ملف الأسرى أصبح موضوعاً فرعياً، رغم توجهات لتحسين شروط صفقة التبادل. ويتضح من المشهد إجمالاً أن الردع هو الهدف الأساسي حالياً لمواجهة الإحساس بوجود خطر وجودي، وتبدّد ما كافحت إسرائيل لتثبيته، من الصورة الأسطورية على المستويين، الدفاعي والاستخباراتي، بينما يتضح أنه هدف غير مستحيل، ويمكن مهاجمتها من جهات عدة في توقيت واحد، وهذا يجعل إسرائيلياً تكلفة الأمن مرتفعة، ويعظم من وزن التحرك العسكري ودوره دفاعاً وهجوماً، قياساً بالتحركات السياسية والدبلوماسية.
لذا، ليس التركيز على أن نتنياهو هو العائق الأساسي لوقف الحرب كافياً، خصوصاً مع دعم داخلي يتكامل مع دعم خارجي، من حكومات غربية، ومساندة غير محدودة من واشنطن، مع اصطفاف فرنسا وبريطانيا مكونتين مع تل أبيب تحالفاً رباعياً، يعلن وزيرا خارجية بريطانيا وفرنسا مع نظيرهما الإسرائيلي التضامن والاستعداد للدعم العسكري في مواجهة إيران، وكأننا أمام جبهة للحرب، وتذكّرنا صور الوزراء الثلاثة بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، لكن اليوم مواجهة طهران وحلفائها بما فيهم حزب الله، وتدور المواجهة بشكل أساسي مع المقاومة الفلسطينية على قطاع غزّة.
تريد تل أبيب إثبات أن أي هجوم عليها مستقبلاً سيكون مكلفاً ونتائجه كارثية
وبهذا المشهد، بما يتضمنه من عناصر مساندة، تعلن إسرائيل استعدادها للمواجهة في ساحة لبنان وسورية، والتمادي في فرض شروطها بشأن انسحابها من غزّة، بامتلاك أدوات للسيطرة، ومحاصرتها بشكل أكبر، ضمن سياسة عقابية ترتبط بالردع أيضاً، وتأكيد الهيمنة. لذا، المشهد الكابوسي من ظروف تحيط بالقطاع، مقصود بكل تفاصيله، وتحويله إلى ميدان للحرب مدمّر بشكل كامل، وحشر مليون من السكان في حوالى 30 كيلومتراً، تحت لافتة المنطقة الإنسانية، يفتقدون الخدمات، وهم محاصرون بالخوف من الاستهداف، بجانب أخطار الأمراض التي تتوسّع مع تلوث الخدمات الطبية وعجزها، وشح المستلزمات العلاجية البسيطة، ومحاصرة الجوع، مع صعوبة وصول المساعدات، وإن وصل الشحيح منها، كيف توزّع في هذا الوضع الذي لا يمكن تنظيمه أصلاً؟ فوضى تزيد انعدام الإحساس بالأمن، ويصبح النزوح والتدريب عليه مرّات متتالية، عقاباً متجدداً، ولا يصف قدر الألم إلا من يعانيه.
لا تتوقف مآلات الحرب الحالية عند تقليص قدرات المقاومة، لكن تل أبيب تريد إثبات أن أي هجوم عليها مستقبلاً سيكون مكلفاً ونتائجه كارثية، وضمن ذلك التهديد بالبقاء في غزّة، ومقابل الانسحاب تطالب بقبول المقاومة ومصر الرقابة والسيطرة على الحدود والمعابر، ضمن استراتيجية الردع أيضاً، مع التركيز على الحدود، والتحوّط وتأمين ما تراه من ثغرات في الحدود. ومن هذا المنطلق، المفاوضات جزء رئيسي، فيها وضع محور فيلادلفيا ومعبر رفح، ومحاولة بعض الأطراف ربطها بحالة الحدود مع لبنان ورد فعل حزب الله على اغتيال قيادات عسكرية، يمكن أن تتصاعد، ولا استثناء للحدود مع سورية، لذا مهما أدرك أن خيار إسرائيل بالحرب من أجل الردع بات راسخاً، وهو تفسير لرفضها مقترحاً مصرياً للهدنة، قبل اجتياح رفح، ورفض مبادرة بايدن وإضافة اشتراطات تتعلق بعودة النازحين إلى الشمال (خصوصاً موظفين بحكومة حماس وأعضاء بالحركة) والإصرار على البقاء في محور فيلادلفيا (وإن اختلف حجم ومساحة الوجود والانتشار العسكري) ومطالبة بالسيطرة على معبر رفح، جنوباً، مع التلويح بالبقاء في محور نتساريم وسط القطاع، ما يشكل نظاماً متكاملاً للسيطرة الميدانية، ولو مؤقتاً، وربما حتى إيجاد إدارة بديلة لغزة تستبعد حماس.
المشهد الكابوسي من ظروف تحيط بالقطاع، مقصود بكل تفاصيله، وتحويله إلى ميدان للحرب مدمّر بشكل كامل
وتضغط إسرائيل بهذه المطالب على القاهرة وفصائل المقاومة معاً، وتستعمل محور فيلادلفيا والمعبر أداة للمساومة، وتتقدّم كلما أمكنها كسب أرض ومساحة للضغط، سواء باختبار ردة الفعل، أو بتلقي دعم من واشنطن ودول غربية مع مساندة الداخل الإسرائيلي، ولم يكن نتنياهو حتى ديسمبر قد اتخذ قرار السيطرة على محور فيلادلفيا، لكن أعلنه هدفاً ضرورياً، واصفاً إياه بالثغرة الجنوبية التي لن تنهي الحرب من دون سدها، ومبرراً الخطوة بعمليات تهريب للسلاح، التي كرّرتها وسائل إعلام، وروجت لاكتشاف أنفاق في رفح، بينما شنت مصر، منذ سنوات طويلة، حملات متكررة لمحاصرة أنشطة التهريب، وبعد 2014 توسّعت أنشطة الرقابة، وهدمت القاهرة أنفاقاً وأغرقتها بالمياه، وأقامت حواجز خرسانية على أعماق ضخمة بين سيناء وغزة، ومنذ 2017 تعاونت القاهرة مع حركة حماس في ضبط الحدود بين رفح المصرية والأخرى الفلسطينية، لكن تل أبيب تتمسك بابتزاز سياسي يبرّر البقاء ميدانياً على الحدود المصرية الفلسطينية الذي جرى التمهيد له، وتأطيره في أوراق بحثية وتصريحات ومطالب لقوى سياسية، حول أمن الحدود في جزء من استراتيجية أمنية تستهدف الردع. وفقاً لذلك، ليس احتلال معبر فيلادلفيا مجرد ورقة ضغط، ولا يرتبط بعملية رفح وحسب، التي حدد لها ستة أسابيع، بينما ما زالت مستمرّة منذ بداية مايو/ أيار، واعتبر نتنياهو، في مناسبات عدة، السيطرة على المعبر والمحور نصراً وإنجازاً استراتيجياً لم يكن ليتحقق لو استجاب للضغوط، ما يؤشّر على أن الحدود بين سيناء وقطاع غزّة أصبحت ضمن أولويات أمنية للاحتلال، ولم تعد تثق تل أبيب بالقاهرة شريكاً، وترى أنها تقوم برسائل مزدوجة لها ولـ"حماس"، بينما تصطف مع المقاومة في مطلبها المتعلق بالانسحاب الكامل من المحور والمعبر، وعدم التجاوب مع مقترح بلينكن في زيارته القاهرة باستبدال القوات الإسرائيلية بقوات دولية بمشاركة مصرية.
وفي ما يتعلق بمعبر رفح، تقترح مصر إعادة تشغيله ضمن اتفاقية المعابر، بمشاركة فريق من الاتحاد الأوروبي، كما كان الوضع سابقاً، لكن إسرائيل تناور، وقد توافق مستقبلاً مقابل القبول بتمركز قوات محدودة (خمس نقاط) في محور فيلادلفيا، مؤقتاً وبقوات محدودة (حتى لا تخترق بنود معاهدة السلام) أي العودة نظرياً إلى ما قبل 2005، على أن يجري الانسحاب تدريجياً، وهو ما يوجد كعب أخيل، ويسهل معاودة الهجوم على القطاع مرة أخرى بطريقة سهلة، غير بقاء الوجود العسكري على الحدود وربما الدخول في التفاوض بشأنه، ما يذكر بتاريخ المماطلة بداية من مفاوضات غزّة أريحا، وقبلها استغرقت استعادة مصر لمنطقة طابا عشر سنوات بين تفاوض وتحكيم دولي.