29 أكتوبر 2024
بين أنقرة وأثينا.. الدرع رمزاً سياسياً
تلعب اللغة، في لحظات التأزّم السياسي، دوراً أكبر مما هو مألوف، وتشكل الرموز المستخدمة فيها بُعداً يتجاوز في دلالاته المعاني المباشرة، حاملاً بين مخالب أحرفه ما يمنح الخطاب تأثيراً ثقافياً أو عقائدياً. وعندما أطلقت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) تسمية "مجد العذراء" على عملية تحرير الكويت من الغزو العراقي، كان الرمز سبباً في جدل مستحق. وعند انطلاق عمليتها العسكرية أخيراً في شمال سورية، اختارت تركيا لعمليتها اسم "درع الربيع"، تاركة لمن شاء أن يستنتج ما يشاء من استحضار الرمز الدفاعي الأكثر شهرة في التاريخ، "الدرع" مقترناً بالربيع، فهل هو الربيع العربي الذي جعل أنقرة أقرب لدمشق وطرابلس الغرب والرياض والدوحة والقاهرة (صداقةً أو عداءً)، من قربها لأثينا أو باريس، أم هو استخدام محايد سياسياً يربط العملية العسكرية بالفصل المناخي الذي يكاد يواكب العملية؟
التحرّك العسكري التركي سبقته مقدّمات ساخنة، وشهد مساره تطورات تبلغ الغاية في التعقيد، سواء فيما يتصل بتأثيراته على العلاقات التركية الروسية الناشئة حديثاً، وهي علاقات تنطوي، منذ بدأت، على مفارقاتٍ في بنيتها. كذلك أثر التحرك العسكري التركي في علاقات تركيا بإيران، وعلاقاتها بالأكراد ودول عربية، كذلك أثّر في علاقاتها مع حلف شمال الأطلسي
(الناتو). وبالتوازي مع العلاقات العسكرية والسياسية مع الحلف. وفي مسار منفصل، لا تقل حساباته تعقيداً، أطلقت عمليات تكدّس اللاجئين القادمين من تركيا على الحدود اليونانية حراكاً أوروبياً منح أثينا لقب "الدرع الأوروبية"، فما دلالات هذه المقابلة اللغوية بين "درعين"؟
أطلقت الوصف/ اللقب رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، مع وعد بمعونة مالية قدرها 700 مليون يورو. والجدل القديم الجديد بين "الدفاعي" و"الهجومي" في لغة السياسة قديم. ومنذ عقود، شهد العالم العربي موجة تغيير اختفى بعدها من أسماء وزاراتها كل ما له صلة بالحرب، وحل اسم "وزارة الدفاع" محل لفظ الحرب بصيغه المختلفة. وصار "الدرع" مفردةً واسعة الانتشار في مسمّيات مختلف الأنشطة العسكرية والمشروعات التسليحية. و"الدرع" وسيلة دفاع يثير استخدامها طيفاً من المشاعر الوطنية، في مقدمتها "الخوف". والحديث الرسمي عن "درع أوروبية" امتداد لمسار طويل من الأدبيات والتنظيرات التي تكرّس صورة الجنة التي يهدّدها البرابرة، في تبسيطٍ مخلّ لحقائق بعضها محل خلاف في ما يتصل بمعناها، أو اتساقها معرفياً، أو مشروعيتها أخلاقياً.
يتحدث بعض الإعلام التركي عن اختلاط الدماء العربية والسورية في معركة واحدة، لأول مرة من زمن طويل، وهذا بالفعل منعطف تاريخي، بينما تتحدث أوروبا، في الوقت نفسه، عن اليونان كـ "درع أوروبية"، بعد تاريخ طويل من اضطلاع أوروبا بدور القوة التي تعيد تشكيل العالم جنوباً وشرقاً، من خلال واحدة من أضخم "العمليات الهجومية" في التاريخ، متمثلةً في
موجات الاستعمار العسكري المتلاحقة التي جعلت أوروبا قروناً في غنى عن أي "درع".
واليوم، تتحرّك تركيا جنوباً بعد عقود من التوجه سياسياً وعسكرياً صوب الشمال والغرب. وفي الوقت نفسه، يتحرّك قسم من الجنوب/ الشرق باتجاه أوروبا في مسار معكوس. واليونان التي كانت لسنوات "الرجل المريض" الذي تسعى أوروبا إلى إنقاذه، ولا تتردد في تكبيله بالقيود وتهديده بالويل والثبور، أصبحت "البوابة" التي يهرول الاتحاد لدعمها مالياً وسياسياً، وعلى امتداد حدودها مع تركيا تتوجه الأنظار ومنظومات المراقبة كافة، وكذلك يتقاطع الدرعان: التركي والأوروبي.
والذي لا شك فيه أن الموقف الأوروبي المفتقر إلى أبسط قواعد الشعور بالمسؤولية، في الشأن السوري، تسبب في التعقيدات الخطيرة التي أطلقت "درع الربيع"، ومنحت اليونان لقب "الدرع الأوروبية". والسوريون لا يهدّدون أمن أوروبا ورفاهيتها في حال انتصرت ثورتهم، إلا في
خطاب اليمين الأكثر تشدّداً في أميركا وأوروبا، وخطابه في حقيقته إعادة إنتاج بائسة لخطاب "تحالف الثورة المضادّة العربي"، والدرع الوحيد الذي يحتاجه الاتحاد الأوروبي هو درع يصد "المد الهجومي" لأموال عربية تشتري نفوذاً سياسياً مشبوهاً في عواصم غربية عديدة، وأول ما يستهدفه هذا المال السياسي دفع الغرب إلى التعامل مع العرب والمسلمين من وراء "درع".
يكرّس هذا المال أفكاراً أخطرها الخوف من انتصار "الربيع العربي"، والاستمرار في استثمار شعور الأوروبيين بالأمن من غرق شعوبنا في مستنقع اليأس والفقر والقهر، وكلا الطرفين في حاجةٍ إلى "جسر"، لا إلى "درع".
أطلقت الوصف/ اللقب رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، مع وعد بمعونة مالية قدرها 700 مليون يورو. والجدل القديم الجديد بين "الدفاعي" و"الهجومي" في لغة السياسة قديم. ومنذ عقود، شهد العالم العربي موجة تغيير اختفى بعدها من أسماء وزاراتها كل ما له صلة بالحرب، وحل اسم "وزارة الدفاع" محل لفظ الحرب بصيغه المختلفة. وصار "الدرع" مفردةً واسعة الانتشار في مسمّيات مختلف الأنشطة العسكرية والمشروعات التسليحية. و"الدرع" وسيلة دفاع يثير استخدامها طيفاً من المشاعر الوطنية، في مقدمتها "الخوف". والحديث الرسمي عن "درع أوروبية" امتداد لمسار طويل من الأدبيات والتنظيرات التي تكرّس صورة الجنة التي يهدّدها البرابرة، في تبسيطٍ مخلّ لحقائق بعضها محل خلاف في ما يتصل بمعناها، أو اتساقها معرفياً، أو مشروعيتها أخلاقياً.
يتحدث بعض الإعلام التركي عن اختلاط الدماء العربية والسورية في معركة واحدة، لأول مرة من زمن طويل، وهذا بالفعل منعطف تاريخي، بينما تتحدث أوروبا، في الوقت نفسه، عن اليونان كـ "درع أوروبية"، بعد تاريخ طويل من اضطلاع أوروبا بدور القوة التي تعيد تشكيل العالم جنوباً وشرقاً، من خلال واحدة من أضخم "العمليات الهجومية" في التاريخ، متمثلةً في
واليوم، تتحرّك تركيا جنوباً بعد عقود من التوجه سياسياً وعسكرياً صوب الشمال والغرب. وفي الوقت نفسه، يتحرّك قسم من الجنوب/ الشرق باتجاه أوروبا في مسار معكوس. واليونان التي كانت لسنوات "الرجل المريض" الذي تسعى أوروبا إلى إنقاذه، ولا تتردد في تكبيله بالقيود وتهديده بالويل والثبور، أصبحت "البوابة" التي يهرول الاتحاد لدعمها مالياً وسياسياً، وعلى امتداد حدودها مع تركيا تتوجه الأنظار ومنظومات المراقبة كافة، وكذلك يتقاطع الدرعان: التركي والأوروبي.
والذي لا شك فيه أن الموقف الأوروبي المفتقر إلى أبسط قواعد الشعور بالمسؤولية، في الشأن السوري، تسبب في التعقيدات الخطيرة التي أطلقت "درع الربيع"، ومنحت اليونان لقب "الدرع الأوروبية". والسوريون لا يهدّدون أمن أوروبا ورفاهيتها في حال انتصرت ثورتهم، إلا في
يكرّس هذا المال أفكاراً أخطرها الخوف من انتصار "الربيع العربي"، والاستمرار في استثمار شعور الأوروبيين بالأمن من غرق شعوبنا في مستنقع اليأس والفقر والقهر، وكلا الطرفين في حاجةٍ إلى "جسر"، لا إلى "درع".