24 أكتوبر 2024
ذراع الإمارات الطويلة في اليمن
أخيرا، أعلنت دولة الإمارات رسميا عن خفض عديد قواتها وعتادها في اليمن، وبرّرت مصادرها الرسمية هذا القرار بتوجهها من استراتيجية الحرب إلى "السلام أولا". وفتح هذا الانسحاب الجزئي الباب أمام تكهناتٍ بشأن دوافع الانسحاب، ومفاعيله في الساحة اليمنية، ومستقبل التحالف الاستراتيجي الإماراتي السعودي المعلن لمواجهة التهديدات في المنطقة. ويأتي هذا القرار، في ظل التطورات أخيرا، ممثلةً بالتوتر المتصاعد بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، واحتمالات انجراف المنطقة وراء مواجهةٍ عسكرية بين الطرفين، تكون فيها الإمارات والسعودية قوتين رئيسيتين، وتخشى معها الإمارات من أن تكون هدفا رئيسيا لضربات إيرانية انتقامية مدمّرة (ألقت السعودية اللوم على طهران بشكل مباشر في الهجمات الأخيرة في الخليج، وامتنعت الإمارات عن توجيه اتهامات مباشرة). وتفضّل أبوظبي أن تكون قواتها ومعدّاتها تحت تصرفها بعد الهجمات على ناقلاتها النفطية في الخليج، إذ يهدّد الحوثيون مراراً باستهداف العمق الإماراتي، وتبنوا في فيديو نشروه في مايو/ أيار 2019، استهدافهم منشآت في مطار أبوظبي الدولي عام 2018 بطائرة مسيّرة، في حين نفت الإمارات تعرّض المطار لأي هجوم، وقالت إن الحادث تسبّبت به مركبة إمدادات.
سرّعت التطورات أخيرا انسحابا إماراتيا، لكنها لم تكن وراء اقتناع الإمارات بمبدأ الانسحاب نفسه، فمنذ فشل التحالف الدولي في تحرير العاصمة صنعاء من يد الحوثيين، رأت الإمارات التي امتلكت، في مقابل التخبط السعودي، سياسة واضحة في اليمن، أن لا أمل في حسمٍ
عسكري قريب، وأن كلفة الاستمرار في الحرب ستكون باهظة، إذ كلّفتها حتى الآن: 112 قتيلا، وحوالي 1.3 مليار دولار، وسمعتها في المحافل الدولية، بوصفها طرفا تسبّب بمقتل عشرات آلافٍ من المدنيين اليمنيين، وانتشار المجاعات، وتفشّي وباء الكوليرا، في كارثةٍ إنسانية هي الأسوأ عالميا، ما دفع مجلس الشيوخ الأميركي إلى التصويت على رفض صفقة أسلحة بقيمة ثمانية مليارات دولار مع السعودية والإمارات. أما دعم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، فلن يكون كافياً لحماية حلفائه من أضرارٍ كبيرة في السمعة، وبعد مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في إسطنبول، لم يعد في وسع حكّام الإمارات التساهل مع الخطوات المتهورة التي يتورّط بها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، وتسيء إلى حلفائه الذين اضطروا إلى نوعٍ من سياسة النأي بالنفس.
استمرار الإمارات في دفع تكلفة حربها في اليمن بات يهدّد تماسك جبهتها الداخلية، إذ تعترض دبي بشدة، بوصفها مركزا لجذب الأعمال، على التكلفة المادية الضخمة للحرب، ويبدو أن الإمارات شرعت في خفض عديد قواتها وعتادها طوال الشهور التي أعقبت اتفاق استوكهولم أواخر العام الماضي، لكنها تردّدت في الإعلان عنه رسميا تجنبا لإثارة حساسية السعودية، شريكتها في التحالف. وعلى الرغم من أن الرياض وأبوظبي تحافظان على موقفهما الثابت في دعم الثورات المضادّة، للحفاظ على الوضع الاستبدادي القائم في المنطقة، في وجه سنوات من الثورات الشعبية والاحتجاجات العامة والحروب الأهلية، وتتشاركان وجهة النظر العامة إزاء التهديدات في المنطقة، إلا أن لكل منهما أجندة أولويات مختلفة إزاء تلك التهديدات والتعامل معها.
بعدما صوّرت الإمارات والسعودية مساندتهما أطرافا مختلفة مُناهِضَة للحوثيين، بأنها توزيع للجهود التي تسعى إلى الهدف ذاته، تبين أن ذلك لم يكن إلا تعارضا في الأهداف. وفي حين ركّزت السعودية على مكافحة المتمرّدين الحوثيين المدعومين من إيران، استهدفت الإمارات الجماعات المرتبطة بالإخوان المسلمين (حزب التجمع اليمني للإصلاح)، وبدت أقل قلقا من تمكين الانفصاليين في جنوب اليمن، لتعمل على دعمهم. فضّلت الإمارات عدم توحيد القيادة العسكرية، وأصرّت على فصل العمليات، وتقاسم المسؤوليات، والمناطق، فتركّزت عملياتها العسكرية في الجنوب، ونفّذ السعوديون عملياتهم شمالا، أما التنسيق بينهما فكان رمزيا. وعلى الرغم من أن حجّة الإمارات من تدخلها العسكري كان مكافحة إرهاب تنظيم القاعدة، بدا أن التنظيم يعمل بحرّية أكبر في المناطق الخاضعة للنفوذ الإماراتي.
أعادت الإمارات خلط الأوراق في اليمن بما يخدم مصالحها، وإحكام سيطرتها على الجنوب،
تمهيدا لتحويل تدخلها في اليمن حربا بالوكالة، فحتى في حال خفّضت الإمارات حجم قوّاتها، فلديها ذراعها الطويلة هناك، ممثلة في جهاز عسكري - أمني ضخم، في عدن، وجميع أنحاء جنوب اليمن، مكوّن، حسب تقديرات، من حوالي ثمانين ألفا من المسلحين من سلفيين، وانفصاليين جنوبيين، ومرتزقة من جنسيات مختلفة، توفّر عليها عناء البقاء بكل ثقلها المباشر في المستنقع اليمني. قادة هذه التشكيلات التي لا تسيطر عليها الحكومة اليمنية يعملون كأمراء حرب مستقلين، لكنهم يخضعون مباشرة لقيادة القائد العام الإماراتي، ومقارنةً بوحدات الجيش الحكومي اليمني التي يتقاضى أفرادها أجوراً غير منتظمة، يحصل المقاتلون في تلك التشكيلات على أجورهم بانتظام.
سيطرت الإمارات على الممرّات المائية الاستراتيجية في البحر الأحمر، عبر مضيق القرن الأفريقي، وأنشأت قواعد عسكرية في جيبوتي وإريتريا. وعبر الساحل الجنوبي الذي يحتضن تحالف الإمارات مع الحركة الجنوبية الانفصالية التي تعارض كلا من الحوثيين وحكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي، أسس الإماراتيون دولة موازية، لديها خدماتها الأمنية الخاصة التي لا تخضع للمساءلة من الحكومة اليمنية. وحتى في حال سحبت الإمارات الجزء الأكبر من قواتها من المناطق الرئيسية في اليمن، فإنها تترك وراءها القوات المحلية الموالية لها، ومن المستبعد أن يكون انسحابها كاملا، وستحتفظ غالبا بقواعد عسكرية آمنة لها، على غرار قاعدة المكلا المخصصة لعمليات "مكافحة الإرهاب". صحيحٌ أنه مع الانسحاب، تصبح الخلافات بين السعودية والإمارات أكثر وضوحا، لكنهما لن يعرّضا تحالفها للخطر، بل سيعملان على إدارة خلافاتهما في هذه المرحلة الحسّاسة، وقد يضطر السعوديون للبحث عن حل سياسي في اليمن، بصورة أكثر استباقية، قبل أن يجدوا أنفسهم وحيدين في غمار حربٍ لا يمكنهم الفوز بها.
بعد التدخل الخارجي، وازدياد حدّة الاستقطاب الطائفي والسياسي في الإقليم، لم تعد الحرب في اليمن حربا واحدة، بل حروبا يتعدّد ويتكاثر المتورّطون بها، حوّلت اليمن إلى خليط من الإقطاعيات المسلّحة المتناحرة. ولم يعد الحل في مجرد محاربة الحوثيين، بل في رفع المظالم السياسية في يمنٍ تعدّدي ديمقراطي، يوفر فرصا للعيش المشترك، فطرد الحوثيين من عدن لم يكن حلا بقدر ما أحيا آمال انفصاليي الحراك الجنوبي، بعد أن خلت المدينة لأول مرة منذ العام 1994 من أي سيطرةٍ شمالية، وباتوا مستعدّين لإعلان انفصالهم في أي لحظةٍ مواتية، مع أسلحة كافية، وحليف إماراتي يدعمهم بقوة. لم يعد حل المسألة اليمنية ممكنا باتفاق سلام مناطقي، على غرار اتفاق الحديدة، بل بات يتطلب حلا سياسيا واسع النطاق، يضمن استقرارا للمنطقة، وينعكس استقرارا في اليمن، وغيره.
سرّعت التطورات أخيرا انسحابا إماراتيا، لكنها لم تكن وراء اقتناع الإمارات بمبدأ الانسحاب نفسه، فمنذ فشل التحالف الدولي في تحرير العاصمة صنعاء من يد الحوثيين، رأت الإمارات التي امتلكت، في مقابل التخبط السعودي، سياسة واضحة في اليمن، أن لا أمل في حسمٍ
استمرار الإمارات في دفع تكلفة حربها في اليمن بات يهدّد تماسك جبهتها الداخلية، إذ تعترض دبي بشدة، بوصفها مركزا لجذب الأعمال، على التكلفة المادية الضخمة للحرب، ويبدو أن الإمارات شرعت في خفض عديد قواتها وعتادها طوال الشهور التي أعقبت اتفاق استوكهولم أواخر العام الماضي، لكنها تردّدت في الإعلان عنه رسميا تجنبا لإثارة حساسية السعودية، شريكتها في التحالف. وعلى الرغم من أن الرياض وأبوظبي تحافظان على موقفهما الثابت في دعم الثورات المضادّة، للحفاظ على الوضع الاستبدادي القائم في المنطقة، في وجه سنوات من الثورات الشعبية والاحتجاجات العامة والحروب الأهلية، وتتشاركان وجهة النظر العامة إزاء التهديدات في المنطقة، إلا أن لكل منهما أجندة أولويات مختلفة إزاء تلك التهديدات والتعامل معها.
بعدما صوّرت الإمارات والسعودية مساندتهما أطرافا مختلفة مُناهِضَة للحوثيين، بأنها توزيع للجهود التي تسعى إلى الهدف ذاته، تبين أن ذلك لم يكن إلا تعارضا في الأهداف. وفي حين ركّزت السعودية على مكافحة المتمرّدين الحوثيين المدعومين من إيران، استهدفت الإمارات الجماعات المرتبطة بالإخوان المسلمين (حزب التجمع اليمني للإصلاح)، وبدت أقل قلقا من تمكين الانفصاليين في جنوب اليمن، لتعمل على دعمهم. فضّلت الإمارات عدم توحيد القيادة العسكرية، وأصرّت على فصل العمليات، وتقاسم المسؤوليات، والمناطق، فتركّزت عملياتها العسكرية في الجنوب، ونفّذ السعوديون عملياتهم شمالا، أما التنسيق بينهما فكان رمزيا. وعلى الرغم من أن حجّة الإمارات من تدخلها العسكري كان مكافحة إرهاب تنظيم القاعدة، بدا أن التنظيم يعمل بحرّية أكبر في المناطق الخاضعة للنفوذ الإماراتي.
أعادت الإمارات خلط الأوراق في اليمن بما يخدم مصالحها، وإحكام سيطرتها على الجنوب،
سيطرت الإمارات على الممرّات المائية الاستراتيجية في البحر الأحمر، عبر مضيق القرن الأفريقي، وأنشأت قواعد عسكرية في جيبوتي وإريتريا. وعبر الساحل الجنوبي الذي يحتضن تحالف الإمارات مع الحركة الجنوبية الانفصالية التي تعارض كلا من الحوثيين وحكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي، أسس الإماراتيون دولة موازية، لديها خدماتها الأمنية الخاصة التي لا تخضع للمساءلة من الحكومة اليمنية. وحتى في حال سحبت الإمارات الجزء الأكبر من قواتها من المناطق الرئيسية في اليمن، فإنها تترك وراءها القوات المحلية الموالية لها، ومن المستبعد أن يكون انسحابها كاملا، وستحتفظ غالبا بقواعد عسكرية آمنة لها، على غرار قاعدة المكلا المخصصة لعمليات "مكافحة الإرهاب". صحيحٌ أنه مع الانسحاب، تصبح الخلافات بين السعودية والإمارات أكثر وضوحا، لكنهما لن يعرّضا تحالفها للخطر، بل سيعملان على إدارة خلافاتهما في هذه المرحلة الحسّاسة، وقد يضطر السعوديون للبحث عن حل سياسي في اليمن، بصورة أكثر استباقية، قبل أن يجدوا أنفسهم وحيدين في غمار حربٍ لا يمكنهم الفوز بها.
بعد التدخل الخارجي، وازدياد حدّة الاستقطاب الطائفي والسياسي في الإقليم، لم تعد الحرب في اليمن حربا واحدة، بل حروبا يتعدّد ويتكاثر المتورّطون بها، حوّلت اليمن إلى خليط من الإقطاعيات المسلّحة المتناحرة. ولم يعد الحل في مجرد محاربة الحوثيين، بل في رفع المظالم السياسية في يمنٍ تعدّدي ديمقراطي، يوفر فرصا للعيش المشترك، فطرد الحوثيين من عدن لم يكن حلا بقدر ما أحيا آمال انفصاليي الحراك الجنوبي، بعد أن خلت المدينة لأول مرة منذ العام 1994 من أي سيطرةٍ شمالية، وباتوا مستعدّين لإعلان انفصالهم في أي لحظةٍ مواتية، مع أسلحة كافية، وحليف إماراتي يدعمهم بقوة. لم يعد حل المسألة اليمنية ممكنا باتفاق سلام مناطقي، على غرار اتفاق الحديدة، بل بات يتطلب حلا سياسيا واسع النطاق، يضمن استقرارا للمنطقة، وينعكس استقرارا في اليمن، وغيره.