إعادة هيكلة الجيش بين سورية المفيدة وأخرى جديدة
يجري حديثٌ رسميٌّ في سورية، منذ أواخر العام الماضي (2023)، عن محاولاتٍ لإعادة هيكلة الجيش بإشرافٍ مباشرٍ من الرئيس بشّار الأسد، وتطرح إعادة هيكلة جيش النظام تساؤلاتٍ عدّة بشأن أسبابها وطبيعتها وغايتها وتوقيتها، وهو مؤسّسةٌ كانت تقليدياً من أركان النظام، تخضع اليوم لإعادة الهيكلة، بعد إعادة هيكلة حزب البعث والمؤسّسة الأمنية.
أُسّس الجيش السوري في الأول من أغسطس/ آب 1946، وقدّم حسني الزعيم بانقلابه (1949)، نموذجاً سوريّاً لهيمنة الجيش على السياسة استلهمته منطقة الشرق الأوسط، قبل أن يضع انقلاب حافظ الأسد في العام 1970 حدّاً لسلسلة من الانقلابات العسكرية، مُحقّقاً لسورية استقراراً فريداً عبر ديكتاتورية استنسخت نفسها من الصيغة السوفييتية شملت حزباً أوحداً، ومؤسَستي جيش وأمن عقائديَين. أمّمت هذه الصيغة السياسةَ، وأغلقت الفضاءَ العام في مجتمع مُعسكَر، وقوّضت المؤسّسات لمصلحة حكم الفرد، مع إخفاقها في تحرير الأرض ومواجهة أعداء الخارج، ما أسّس لأن يصبح الجيش أداةً لقمع ثورة الشعب السوري (2011)، الذي انتفض في وجه النظام، وتسبَّب في واحدة من أعظم الكوارث الإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية.
بدت عسكرة الثورة نتيجةً طبيعةً لعسكرة المجتمع السوري، وقوبل استبداد النظام بعنف راديكالي، واختلط حابل الفاعلين السوريين بنابل الفاعلين الإقليميين والدوليين، وسرعان ما سيطرت الطبيعة الطائفية للصراع على القوات العسكرية والأمنية، بالتوازي مع صعود حركاتٍ جهادية مسلّحة، وتشكيل مليشيات عسكرية وشبه عسكرية رديفة لقوات النظام، تراجعت أمام فصائل المُعارَضة المسلّحة، المدعومة والمموّلة من الخارج، وتمثّلت بعض خسائر السوريين (الكثيرة) خسائرَ في صفوف الجيش عتاداً وعديداً، وهو الذي استُنزِفت باسمه ثروات السوريين وميزانيات مؤسّساتهم سنوات طويلة. قدّرت مصادرٌ القوات المسلّحةَ التابعةَ للنظام قبل العام 2011 بنحو 295 ألفاً، وبقوات احتياط قوامها 314 ألفاً، عانت خلال سنوات الحرب استنزافاً مالياً وبشرياً، فلجأ النظام إلى إيران وروسيا، واستقدم مليشياتٍ متعدّدة الجنسيات إلى الأراضي السورية، ما عقّد الوضعين السياسي والعسكري، وعمّق الكارثة، وأصبحت إعادة هيكلة الجيش شرطاً وطنياً للخروج من النفق نحو حلٍّ لبناء دولة لكلّ مواطنيها.
كانت الخدمة الإلزامية مرنةً، مُخترَقة بالفساد، تقبل التأجيل والتخلّف والمتاجرة
لم يوفّر إعلان وزارة دفاع النظام عقود تطوّع (أكتوبر/ تشرين الأول 2023)، الأعداد المطلوبة، لتستأنف وزارة الدفاع السورية ترويج عروضٍ جديدةٍ بمميّزات غير مسبوقة. وفي يونيو/ حزيران الماضي، أعلن مسؤول في الوزارة عزم الحكومة على تغيير مفهوم الخدمة العسكرية الإلزامية للوصول إلى جيش "احترافي" يعتمد على المتطوّعين، عبر مراحل ثلاث، تشمل عقود تطوّع جديدة، وجدولاً زمنياً لتسريح عشرات الآلاف مع نهاية العام الحالي (2024)، ومثلهم العام المُقبل (2025). وبالفعل، كان النظام قد سرّح خلال الأشهر الماضية آلاف العسكريين من الخدمة الاحتياطية، وخاصّة أولئك الذين أتمّوا خمس سنوات ونصف السنة. آخر العروض روّجتها وزارة الدفاع قبل أيّام، فعرضت راتباً يراوح بين 1.8 مليون ومليوني ليرة سورية (130 - 140 دولاراً)، مع بدلٍ للمواصلات ومكافآت وحوافز إضافية مختلفة، وذلك كلّه تحت عنوان "أولوية تحسين الوضع المعيشي" لأفراد القوات المسلّحة، علماً أنّ الراتب الشهري لموظّفٍ من الدرجة الأولى في المؤسّسات الحكومية المدنية لا يتجاوز 35 دولاراً شهرياً.
قبل الثورة، وكان شعار "تحرير الجولان" عنواناً رسمياً، تناقصت فترة الخدمة العسكرية الإلزامية، فانخفضت من سنتَين ونصف السنة إلى سنتَين (2005)، ثمّ إلى 21 شهراً (2008)، ثمّ إلى سنة ونصف السنة (2011). كانت الخدمة الإلزامية مرنةً، مُخترَقة بالفساد، تقبل التأجيل والتخلّف والمتاجرة، وكان الجيش مزرعةً لاسترزاق ضبّاط برتب مختلفة بشكل علني ومفضوح، لكنّ ذلك يسّر للشبّان الخدمةَ في قطعاتٍ عسكرية قريبة من مناطقهم، والحصول على إجازات، وحتّى على "تفييش" (أداء الخدمة إسمياً فقط)، بمُدَدٍ متفاوتةٍ بقدر ما تسمح ميزانية واحدهم. أتاح لهم هذا الفساد (كغيره من حالات فساد "خلّاق" في سورية)، متابعة أعمالهم وإعالة عائلاتهم وأسرهم.
خلال أزيد من 13 سنة من الحرب، ترهّل الجيش السوري، واستُنزِف بشرياً ومالياً، وانخفض عديده في 2014 إلى النصف، بحسب تقديراتٍ، بعد مقتل وانشقاق وفقد وجرح الآلاف من الجنود في العمليات العسكرية، وتصاعدت وتيرةُ التدابير الهادفة إلى الحفاظ على عديد الجيش وتماسكه، عبر جهود مكثّفةٍ لتعويض الخسائر البشرية التي تكبّدها من خلال التعبئة الواسعة النطاق لجنود الاحتياط، وحملات اعتقال ولوائح بهدف وقف حالات الفرار والتخلّف عن الخدمة. طبّقت الحكومة الاحتفاظ (إبقاء المجنّد في الخدمة بعد انتهاء خدمته الإلزامية)، واستدعت من أكملوا التجنيد الإلزامي قبل الحرب لأداء الخدمة الاحتياطية. كان ذلك أيضاً جزءاً من مساعٍ لكسب مزيد من الأراضي من المُعارَضة المسلّحة، بعدما شعر الأسد بالقلق من أنّ روسيا (بتشجيع إيران)، مهتمّة بتسوية الحرب عبر التفاوض، ما عثّر المسار السياسي.
الولاء الذي أضحى الهاجس الأول، شدَّد عليه مُجدَّداً توجّه وزارة التربية إلى إعادة مادَّة التربية العسكرية (الفتوَّة)، في المدارس
أعاقت الخدمة العسكرية الحياة الطبيعية للشبّان في مناطق سيطرة النظام، قلّة منهم تمكّنت من تحملّ كلفة "التفييش" المرتفعة، الذي تراجعت فرصه ميدانياً، وأهمّيته ضمن شبكات الفساد لصالح "التعفيش". قضى شبّانٌ بين سبع وثماني سنوات في الخدمة، فانعكس ذلك سالباً على المجتمع والاقتصاد السوريَّين. وفرّ آلاف من الشبّان خارج البلاد، إضافة إلى الفارّين من الملاحقات الأمنية، ما أفقد سورية شريحةً واسعةً من قوّة العمل، في ظلّ ظروف اقتصادية متردّية وبطالةٍ مرتفعةٍ. ومع استعادة النظام السيطرة على جزء كبير من الأرض، صدرت في السنوات الثلاث الماضية مراسيمٌ وقراراتٌ بتسريح من الخدمة (الاحتفاظ والاحتياط)، على دفعات.
تترافق إعادة الهيكلة المُعلَنة مع هدوء نسبي في جبهاتِ القتال، ويُعوّل النظام على عقود تطوّع بمحفزاتٍ ماليةٍ تجعل الخدمةَ العسكريةَ أقلَّ وطأة، ما يُقلّل حالات الفرار والتخلّف، ويمتصّ التذمّر بعد إحباط من خدمة طالت واستطالت، كما يتوقّع النظام أن تلبّي الهيكلة الحاجة إلى كتلةٍ صلبةٍ من أفراد متطوّعين بولاء أكبر، تحت ضغط المغريات المالية المشجّعة نسبياً (بحكم البطالة وتردّي الأجور في القطاعين العام والخاص)، مقارنةً بمن يُؤدّون خدمتهم الإلزامية، الأقلَّ موثوقيةٍ بسبب الانقسامات الاجتماعية والطائفية. يخضع هؤلاء المتطوّعون لتنمية مهاراتهم وكفاءاتهم، ولإعادة تشكيلهم عقائدياً بما يضمن الولاء المطلق للنظام. الولاء الذي أضحى الهاجس الأول، شدَّد عليه مُجدَّداً توجّه وزارة التربية إلى إعادة مادَّة التربية العسكرية (الفتوَّة)، في المدارس.
هي إعادة هيكلة للجيش في إطار سورية المُفيدة للنظام، لا في مصلحة سورية جديدة يشتهيها السوريون
توفّر إعادة الهيكلة مواردَ إضافية، إذ تضمّنت تعديلَ القوانين للسماح بدفع بدل نقدي للخدمتَين الإلزامية والاحتياطية، ويأمل النظام بتسريح جنود احتياطٍ ومُجنّدين تخفيفَ الأعباء على قطاعات اقتصادية مدنية، وتحرير مزيدٍ من العمالة لمصلحة الإنتاج الاقتصادي، والحدّ من موجات اللجوء والهجرة هرباً من الأوضاع الاقتصادية المُتردّية وانعدام آفاق للمستقبل، ومن خدمة عسكرية شكّلت (بحسب تقارير أممية)، سبباً رئيساً لفرار الشبّان فوق 18 عاماً، وأيضاً أحد أكثر الأسباب أهمّيةً يمنع عودتهم. ويشكّل الشبّان المتخلّفون عن الخدمتَين الإلزامية والاحتياطية نسبةً مرتفعةً بين اللاجئين إلى دول عربية تطالب النظامَ بإعادتهم، ضمن ترتيبات المبادرة العربية "خطوة في مقابل خطوة"، كما أنّ عودة اللاجئين تُحرّك ملفَّ إعادة الإعمار التي يُطالِب بها النظام شرطاً لعودتهم. وقد تحقّق إعادة الهيكلة التقليل من اعتماد النظام على روسيا وإيران، وتمنحه هامشَ المناورة واستقلاليةَ القرار. وعبر عقود تطوّع بشروط أفضل من تلك التي تقدّمها المليشيات، يمكنه دمج مزيد من مقاتلي المليشيا في القوات النظامية أفراداً، تمهيداً لتفكيك المليشيات، وللسيطرة على الفوضى الأمنية.
وصف فارس الخوري انقلاب حسني الزعيم بأنّه "أعظم كارثة حلّت بسوريا منذ تصفية جماعة تركيا الفتاة" ("الصراع على سوريا"، باتريك سيل، نقله إلى العربية سمير عبده ومحمود فلّاحة، دار طلاس، دمشق، 1986)"، لكن لم يخطر في بال الخوري، ولا في بال غيره من سوريين، أنّ كارثة انقلاب الجيش على الدولة ومؤسّساتها سوف تنتهي بانقلاب الجيش على الشعب، هذا الجيش الذي يخضع اليوم لإعادة هيكلة فرص نجاحها رهن بتفكيك شبكات الفساد المستشري فيه، وبقدرة النظام على تمويل إعادة الهيكلة، في ظلّ العزلة الاقتصادية التي يعانيها، والعقوبات التي يخضع لها، وهي في كلّ حال إعادة هيكلة للجيش في إطار سورية المُفيدة للنظام، لا في مصلحة سورية جديدة يشتهيها السوريون، ومن شروطها جيش ولاؤه للوطن، يحمي الدستور والسيادة الوطنية، ويخضع للمساءلة والمحاسبة، ويلتزم المعايير الدولية والإنسانية، بعيداً عن الحياة السياسية، والولاءات المناطقية والطائفية. إعادة هيكلة للجيش تحقّق تطلّعات السوريين تبدو في الأفق المنظور بعيدةَ المنال.