فواصل برنارد بيفو
توفّي الاثنين الماضي في ضواحي باريس، عاشق اللغة والنبيذ الفرنسييْن، برنارد بيفو (89 عاماً)، الشخصية الأبرز في المشهد الإعلامي الفرنسي سنوات. ظهر في التلفزيون أوّل مرّة ضيفاً عام 1967، ليُتوّج بعد 25 عاماً من الظهور المُتلفز أيقونةً لا تُستبدَل. ولا يزال جيل من الفرنسيين يتذكّرون "أبوستروف" أو "فواصل عُليا"، وحواراته المُمتعة مساء كلّ يوم جمعة، كما رسخت صورته في أذهانهم حاملاً كتاباً في يدٍ، ونظّارته في اليد الأخرى، مُقدّماً برنامج "حساء الثقافة"، وبات اسماً مألوفاً، خصوصاً للفرنسيين الذين تجاوزوا الثلاثين عاماً، بفضل عديدٍ غيرهما من برامج ثقافية مُؤثّرة، ميّزت تاريخ التلفزيون الفرنسي؛ "القراءة للجميع" و"بين قوسين" و "وجها لوجه"، وهي برامج كانت جماهيريةً رغم استضافتها فلاسفةً ومُفكّرين وروائيين كباراً، أصبحت معها نقاشات النُخبة في متناول الجميع، ودخل الأدب إلى بيوت الفرنسيين وقلوبهم. فضوله الذي لا يَشْبَع، واستماعه المُتعاطف، واحترامه الآخرين، جعلت منه مُحاوراً قيّماً، أثّر في عشرات من مُقدّميّ البرامج الثقافية، فتحوّل سلطةً معرفيةً، واكتسب نفوذاً ومصداقية.
كان بيفو أكثر من مُجرّد مُقدّم برامج، فعشق اللغة الفرنسية حتّى الثمالة، مدافعاً قوياً عن ثرائها وجمالها
الرجل عصاميٌ بامتياز. ولد في ليون في 5 مايو/ أيار 1935 لأب يعمل في البقالة، أُسر خلال الحرب العالمية الثانية، فانتقل بيفو وأسرته إلى قرية صغيرة في منطقة بوجوليه في شمال ليون، وهناك التحق بالمدرسة. في عام 1945 أُطلق سراح والده، وعادت العائلة إلى ليون، ليتابع بيفو الدراسة في مدرسة داخلية كاثوليكية، وأبدى شغفاً في الرياضة، وحافظ باقي أيام عمره على حماسته لكرة القدم ونادي سانت إيتان، وعن كرة القدم، وعن نبيذ بوجوليه، كتب لاحقاً مقالاتٍ كثيرة. ومع تحصيل علمي مُتوسّطٍ في مختلف المواد، أبدى تفوّقاً في اللغة الفرنسية والتاريخ. ومن مركز إعداد الصحافيين في باريس، إلى الصحافة الاقتصادية، انتهى به المطاف في "الفيغارو" صحافياً ثقافياً، ليؤسّس بعدها مجلة لير (قراءة) عام 1975، قبل أن يُطلق في العام نفسه برنامجه الأكثر شهرة "أبوستروف"، الذي دفع ملايين الفرنسيين إلى القراءة. يعترف بيفو بأن تعيينه في صحيفة الفيغارو "فتح عيني، وبدأت أقرأ بشكل محموم. في كل مكان ذهبت إليه كان معي دائماً كتاب. اللحظة الوحيدة التي لا أقرأ فيها هي عندما أكون في السرير للنوم أو لممارسة الحُبّ". كان أكثر من مُجرّد مُقدّم برامج، فعشق اللغة الفرنسية حتّى الثمالة، مدافعاً قوياً عن ثرائها وجمالها، ونظّم بدءاً من عام 1985 بطولة ديكو دور للإملاء باللغة الفرنسية، التي سرعان ما تحوّلت مسابقةً دوليةً، وأعادت اللغة إلى قلب النقاش العام. امتدّ التزامه بالأدب إلى ما هو أبعد من الشاشة الصغيرة، واستحقّ أن يكون رئيساً لأكاديمية غونكور (2004 – 2020)، بوصفه "أفضل رجل مُطّلع على ما يحدث اليوم في عالم الكتب"، بحسب وصف رئيسها الأسبق إدموند تشارلز، وأشرف على جائزتها الأدبية المرموقة التي تعنى بالأدب الفرنسي.
عليك أن تُترجم الفضول العام، فتطرح أسئلة الجمهور، ولا ينبغي لك الانشغال بطرح أسئلتك الخاصّة، هذا أحد أسرار النجاح بحسب بيفو
أحدث بيفو بـ"فواصل عُليا" (بُثّ ما بين 1975 و1990) ثورةً في البرامج الثقافية، مُقدّماً إصدارات جديدة من كُتب ومؤلّفيها، ودعا شخصيات مشهورة للمناقشة والمناظرة على الهواء مباشرةً، مثل مارغريت دوراس، ومارغريت يورسينار، وفلاديمير نابوكوف، وميلان كونديرا، وبول أوستر، وتشارلز بوكوفسكي، وغيرهم كُثر، قدّموا مشهداً من المناقشات الحيوية، والساخنة أحياناً، أسرت ملايين المشاهدين. وما أن توقفت فواصل بيفو العليا، حتّى أتبعها بثقافة ما بعد القراءة، من خلال برنامجه "حساء الثقافة"، ووسّع آفاقه لتشمل السينما والفنّ حتى عام 2001، لكنّه عاد إلى الكُتب عندما رأى أنّ المكتبات بدأت تدخل فترة صعبة. وبعد اعتزال الشاشة الصغيرة، وهو في الـ 65 من عمره، بدأ حياةً ثانية. كثيرون حاولوا تقليده أو سدّ الفراغ الذي تركه من دون جدوى. ألّف أكثر من عشرين كتاباً، منها: "النقد الأدبي"، و"كلمات حياتي"، و"إنّ الكلمات التهمتني"، وأخيراً "مهنة القراءة" (نقله إلى العربية سعيد بوكرامي، منشورات تكوين، الكويت، بغداد، 2020)، الذي خصّصه للحديث عن مسيرته المهنية الطويلة، ليغدو مرجعاً لأسرار الكتب والجوائز وسلوكات الكُتّاب والمؤسّسات الإعلامية، ودليلاً ثقافياً شاملاً لصنعة الكتابة، مع قيمته التعليمية في مجال الصحافة التلفزيونية، وتقديم وإعداد البرامج الثقافية. من ذلك، أنّه يرفض الاتكال على فريق للإعداد، وعلى الكتابة بالمناولة. برأيه، هذا خداع للمشاهد، فعلى الصحافي أن يقرأ بنفسه لمن يستضيفه، مُحذّراً من أن يتحول مُقدّم البرامج إلى "شخصية بهلوانية" حين يصطنع أمام الكاميرا شخصية مغايرة لما هو عليه وراءها، فعليه أن يكون عفوياً مع قدرة على الاستماع والتحفيز، والمُهمّ امتلاكه مهارة ضبط الوقت، واقتناص الفرصة التي قد لا تعوّض، معلناً في هذا السياق ندمه على تأجيله مقابلة مع المؤرّخ الفرنسي فرناند بروديل، بحجّة الإعداد الجيّد، فكان الموت أسرع وصولاً منه إلى بروديل. إنّها مغبّة التفاؤل الكسول، وعلى الصحافي الجيّد ألا يثق بالغد. كما يعترف بفشله في استضافة كُتّاب أحبّهم مثل إميل سيوران، ورينيه شار، وجون بول سارتر. ويقول عن الأخير، إنّ استضافته كانت مستحيلةً خصوصاً بعد نقد بيفو اللاذع لإحدى روايات سيمون دي بوفوار. أن تكون مُقدّم برامج يعني أنّ عليك أن تُترجم الفضول العام، فتطرح أسئلة الجمهور، ولا ينبغي لك الانشغال بطرح أسئلتك الخاصّة، هذا أحد أسرار النجاح بحسب بيفو، مع أنّ الإخفاق لا بدّ منه، فحال الصحافي الثقافي كحال الصحافي الرياضي؛ لن يظفر كلّ الوقت بمباريات ممتعة بقدر كافٍ من الحماسة.
تمدّ فواصل بيفو جسوراً بين الوعي الذاتي والعالم الموضوعي. وقد تأثر كثيرون من معدّي البرامج ومقدّميها، حول العالم، وفي عالمنا العربي، بمدرسة بيفو
عُرِفَ عن بيفو استعداده التام لموضوعه، مُحافظاً على هدوئه وروح الدعابة، وكشف، أخيراً، أنّه غالباً ما يتوتّر قبل العرض، ويحتفظ بحبّة كستناء في جيبه تعويذةً. ظلّ يشعر أنّه يتعلم باستمرار، وقال إنّ تعليمه العالي كان مستمراً مع امتحان كلّ يوم جمعة يدير فيه برامجه التلفزيونية، وكان مُؤثّراً حتّى قبل انتشار مصطلح "إنفلونسر" في خضمّ سيادةِ وسائلِ التواصل الاجتماعي المشهدَ التواصلي العالمي. وبقي يُغرّد عبر "إكس" (تويتر سابقاً)، وترك حين رحيله نحو مليون متابع. عبّر عن قلقه بشأن المكتبات: "اليوم، أصبح عالم الكتاب أكثر هشاشة مما كان عليه قبل 20 عاماً. العديد من المكتبات تختفي؛ مبيعات الكتب على الإنترنت تضّر بها. في الوقت نفسه؛ هذه هي الحداثة". لكنّه بدا مطمئناً أنّ الكميّة نفسها من الكتب تُنشر. فضّل على الكتاب الإلكتروني ذاك الحيّ بين يديه يثير شهوتَه للقراءة، وأبدى تفهّماً لرغبة المرء في قراءة كلا النوعيْن من الكتب، والمُهمّ أنّ "الشباب يقرأون".
تستخدم الفاصلة العليا (‘) في اللغة الفرنسية للوصل بين حرفين مُتحرّكيْن مُتقابليْن في كلمتيْن أو مقطعيْن لغوييْن، حين يتعذّر الكلام والنطق بهما. تيسّر تلك الفاصلة النطق والكلام وصلاً، وبإزالة ما يعوقهما، تماماً كما تزيل الثقافة عوائق فهم الواقع، والقبض عليه نظرياً، تمهيداً للسيطرة عليه فعلياً وتحويله عملياً. تمدّ فواصل بيفو جسوراً بين الوعي الذاتي والعالم الموضوعي. وقد تأثر كثيرون من معدّي البرامج ومقدّميها، حول العالم، وفي عالمنا العربي، بمدرسة بيفو أو على الأقل رغبوا في نجاحاته وإنجازاته، مستوحين حتّى عناوين برامجه الثقافية ومسمّياتها. فإلى أيّ حدّ اقترب هؤلاء من فواصل بيفو، التي أخرجت الأدب من عبوسه ليصبح جزءاً من الحياة واهتمام الناس، ومن موهبته النادرة في جعل الثقافة في متناول الجميع، جماهيرية لا شعبوية، ومن دون التقليل منها أو المبالغة في تبسيطها؟