تونس.. الرئيس واعترافات المطر الأخير

27 مارس 2019
+ الخط -
كأن التبدّلات المناخية المفاجئة في تونس لشهر مارس/ آذار الجاري، والتي جاءت بأمطار مفاجئة، وانخفاض شديد لدرجات الحرارة، تحالفت ضمنياً مع رئيس الجمهورية، الباجي قايد السبسي، فحالت دون خروج التونسيين، كما تعوّدوا، إلى الشارع للاحتفال بالذكرى الثالثة والستين للاستقلال، ليجدوا أنفسهم أمام التلفزات، يتابعون كلمة الرئيس عشية الاحتفال بهذه الذكرى العزيزة على قلوبهم. وهم الذين انتظروها، بهذه المناسبة هذه المرة، لأسبابٍ عديدة، فهي الأخيرة في عهدته الانتخابية (إن لم يترشح وذلك الأرجح)، وهي تأتي قبيل 196 يوماً من خوض انتخابات تشريعية جديدة. كما تأتي في غمار سياقات وتقاطعات سياسية واقتصادية صعبة، وشديدة الوطأة على التونسيين، بسبب تدهور المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية.
خاتل الرئيس السبسي كل التسريبات التي سبقت كلمته، والتي أجمعت على أن الكلمة ستكون مهمة جداً، وسيأتي بالجديد، ولكن الرئيس احتمى بالتاريخ، مستحضراً جسامة التضحيات التي قدمها الشعب التونسي في كل الأزمات التي مرّ بها بلده، من أجل تحقيق الاستقلال، والحفاظ على الوحدة الوطنية، قائلاً "يجب أن نستحضر الماضي، ليكون عبرة لنا في حاضرنا ومستقبلنا، فتونس كلما واجهت رهاناً ونجحت فيه بفضل الوحدة الوطنية". وبعد هذه الدعوة إلى الوحدة الوطنية، فاجأ الرئيس الجميع بصورة قاتمة لعمل الحكومة، عبر تحطيم ممنهج لها، ولرئيسها الابن الروحي الضال الذي شقّ عصا الطاعة، وخرج من جلباب الأب، فتمرّد على سلطة رئيس الدولة، مستنداً على حركة النهضة.. فالتضخم ارتفع من 4،4 % سنة 2010 إلى 7،3 % سنة 2018، على الرغم من أنه انخفض سنة 2016، إذ بلغ 3،7 %. والتداين العمومي ارتفع من 40 % سنة 2010 إلى 71،7% سنة 2018، يضاف إلى ذلك ارتفاع العجز التجاري والعجز الطاقي، وتراجع إنتاج الفوسفات. فماذا ربح التونسيون من ثورتهم إذن؟
يقول أنصار الثورة والربيع العربي إن المسار الديمقراطي هو الذي نجح، وهو ما فنّده السبسي، مؤكداً أن الديمقراطية التمثيلية تُعاني أزمةً في عقر دارها، كما الحال في هولندا وفرنسا
 وإيطاليا، ومشدداً على أنه لا توجد ديمقراطية من دون دولة قانون، ومن دون إعلام مسؤول ومحايد. ويرى ملاحظون أن الرئيس يغمز بذلك إلى القضاء المتهم في استقلاليته، والإعلام الذي بات مرتبطاً بلوبيات المال والأعمال وحسابات المصالح الشخصية والحزبية.
همّش دستور 2014 الذي قيل إنه من أفضل دساتير العالم رئيس الجمهورية، وجاء بحركة النهضة إلى الحكم، فزعزع مدنية الدولة، وأعطى السلطة التنفيذية لرئيس واحد، هو رئيس الحكومة غير المنتخب، والمقصود هنا طبعاً يوسف الشاهد الذي اختاره الباجي لرئاسة حكومة الوحدة الوطنية، ففصول هذا الدستور، حسب الرئيس، تعاكس بعضها. ويضاف إلى ذلك استمرار الصراع بشأن المحكمة الدستورية التي تُعطي لرئيس الجمهورية فرصة تعيين أربعة أعضاء من مجمل أعضائها. لذلك طالب الرئيس بضرورة تحوير الدستور، كاشفاً عن أن لديه تحويراً (تعديلاً) جاهزاً من أجل ضمان انتخابات قادمة تُنقذ البلاد إلى أوضاع أفضل، ومن أجل القطع مع "السياحة الحزبية" (الانتقال من حزبٍ إلى آخر) وغيرها من الظواهر التي أخلّت بكل الموازين. والواضح هنا أن الرئيس يلمح إلى انهيار كتلة حزبه (نداء تونس) في البرلمان، في حين ظلت كتلة حركة النهضة متماسكة. وبذلك استفادت الأخيرة، حسب رأيه، من عقيدتها الإخوانية، في حين تصدّع "نداء تونس" وتشظى، وشارف على التلاشي.
هنا يفاجئ الرئيس الجميع باعتراف آخر مدوٍّ بالقول "إذا كان يرجعنا الشاهد"، أي "لو يعود الشاهد"، ولكن: من ماذا وإلى من؟ الأمر واضح: من الاستقواء على الرئيس بحركة النهضة والعودة الى جلبابه، والإقرار بعلوية سلطتيه، المادية والمعنوية، وعندها فقط قد يحصل الابن على ضالته من دون حاجة إلى عقوق الأب. والواضح أيضاً أن رسالة الرئيس المشفرّة بشأن عودة رئيس الحكومة لا يقصد منها العودة الى حزبه (نداء تونس)، فهذا أمر قد ولّى وانقضى، وإنما يقصد أن يعيد الشاهد إلى الرئيس مقاليد التحكم في خيوط اللعبة السياسية، حتى يكون العرّاب الأول للوحدة الوطنية التي استهلّ بها خطابه، والتي سيخوض بها غمار الانتخابات من أجل انتصار هذه الوحدة. ولا مانع للرئيس هنا، حسب أوساط قريبة منه، في أن يكون يوسف الشاهد مرشحها للانتخابات الرئاسية، خصوصاً وأن الرئيس قد يئس أن تكون لنجله، حافظ السبسي، حظوظ تؤهله للخلافة. جبهة مكوناتها "نداء تونس" و"تحيا تونس" وأحزاب حداثية أخرى على غرار "مشروع تونس" و"المبادرة" وغيرهما..
رأى محللون في نزوع الرئيس إلى خوض الانتخابات المقبلة عبر جبهة حداثية موحدة، عقيدتها 
الانتماء إلى تونس، والدفع بها إلى مسارات الحداثة والمدنية والتطور، إشارةً إلى ضرورة النأي بمستقبل البلاد عن حسابات الأحزاب والأفراد واللوبيات ذات النزوع الأيديولوجي المتطرّف، كيفما كان هذا التطرّف. (وخصوصاً من خلال محاولات التمكين التي ينطلق منها الإسلام السياسي في تحرّكاته وتحالفاته واستنتاجاته). وقد ألمح الرئيس، من دون أن يصرّح، تفادياً للاشتباك، وتجاهلاً لبعض الملفات الحارقة، وفي مقدمتها قضية الجهاز السري، وكارثة الوفيات الرضع، مشيراً إلى مبادرته التشريعية إقرار قانون المساواة في الإرث الذي طوي في أدراج البرلمان إلى ما بعد الانتخابات، كأحد شروط "النهضة" لمواصلة دعمها رئيس الحكومة يوسف الشاهد.
الغريب أن الرئيس لم يتردد في اعتبار أن الراهن التونسي بلا رجال دولة، في إشارةٍ إلى فشل كل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة في الخروج بتونس مما سماه "المضيق"، مؤكداً على أن لا شيء لديه، ولا شيء يبن يديه، يمكن أن يقدمه في هذا المجال. فلماذا مثلاً لم يأت الخطاب على جهود الحكومة في مقاومة الفساد، ونجاحها نسبياً في محاربة الإرهاب، والمضي في حلحلة الملفات الاجتماعية والتنموية العالقة للحكومات السابقة... لقد تعمّد الرئيس تغييب نجاحات حكومة الشاهد، ونأى بنفسه عن كل مسؤولية في فشل هذه الحكومة، فهو غير مسؤول عن السياسات العمومية التي أدت إلى الفشل الاقتصادي والاجتماعي وانخرام الوحدة الوطنية.
أخيراً، يظل التونسيون مرة أخرى يتساءلون: لماذا أصرّ الرئيس الباجي السبسي على استعراض المشكلات العالقة لراهنهم من دون تقديم حلول وبدائل مقترحة، هم في أشد الحاجة لها؟
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي