عن جدل الهوية السياسية لقيس سعيّد

14 يوليو 2023
+ الخط -

بعد سنتين من إجراءات الرئيس التونسي قيس سعيّد (25 يوليو تموز 2021) والتي حكم بها البلاد بالمراسيم، فأمسك كل السلطات باسم الشعب المريد "المتخيّل". وأمام تردّي أوضاع التونسيين وانسداد أفق أمل الخروج من نفقات الأزمات التي تناسلت وطال أمدها إلى إشعار آخر، بدأت بعض النخب التونسية تستعيد "وعيها المتأخر"، بتعبير عزمي بشارة، متسائلة عن الهوية السياسية للرجل الذي انتخبه التونسيون (أكتوبر/ تشرين الأول 2019) بنسبة 72% بعد حملة انتخابية اكتظت بتصريحات كثيرة إنه رجل "لا يبيع الوهم"، ولا يعطي الوعود التي لا يستطيع تحقيقها قائلا: "أنا ملتزمٌ بما أقول وأعد به عكس وعود الأحزاب التي لم يكن حظ الشعب التونسي منها إلا كحظ المتنبي من وعود كافور الأخشيدي" (حاكم مصر 935 - 969 م).

لم يعلن قيس سعيّد عن أي برنامج، ولم يفصح عن أية أهداف واضحة، فيما عدا اهتمامه بتغيير النظام الانتخابي ليجعله قاعديا، "فالرجل النظيف" لم يعد بمحاربة الفقر ولا بمكافحة الفساد. وأمام غياب أي ماض سياسي لأستاذ القانون الدستوري، يرى بعضهم أن قيس سعيّد ربما كان أخطر من حزب النهضة التي دعمته في الانتخابات، ولكنه انقلب عليها واضعا رئيسها في السجن، وذهب آخرون إلى أنه ربما ينتمي إلى تيار سلفي باطني، أو متخفٍّ من تيارات الإسلام السياسي، أو ربما يقع تحت تأثير ما تُعرف بمدوّنة حزب التحرير الإسلامي، مدلّلين على ذلك بأنه لا يؤمن بالأحزاب، لأن لا حزب إلا حزب الله، ولا يؤمن بالديمقراطية التمثيلية، لأنها نبتة شيطانية، ويعارض الدساتير التي تتعارض مع دستور الله. وعندما سمعه آخرون يتحدّث عن "الأمة"، ازدادت قناعتهم رسوخا بأن الرجل الغامض القادم من بعيد يسبح في ملكوت الخلافة الإسلامية. ومع فوزه في دورة ثانية للانتخابات أمام المرشّح نبيل القروي يصبح سعيّد رئيسا رافعا شعار الشعب المريد، معتقدا أن الشعب قطعة منه، وليس هو قطعة من الشعب، مقسّما هذا الشعب المريد إلى شعوب، منها الطهورية الصادقة وأخرى مارقة فاسدة خائنة. وأمام انتشار وتواتر سردية تمجيد الشعب الطهوري الصادق، صنف الرجل في خانة القادة الشعبويين، وأنه جاء ليفضح أكاذيب السياسيين ويحارب الاحتكار ومافيات الغذاء ولوبيات الفساد. وبذلك انتشرت أدبيات وتصنيفات الشعوبية والشعبويين في كتابات النخب التونسية وحلقاتها، مستندين إلى أن القرن العشرين وما تلاه هو قرن الشعبويات بامتياز، إذ رافقت صعود هذا التيار الأزمات والحروب وحركات التحرّر والصراع ضد الإمبريالية وبناء الهويات الجديدة وصعود المد الثوري والاشتراكي، ثم المد الديمقراطي الليبرالي، وتمجيد اليوتوبيات السعيدة، حتى أن الديمقراطية الحقّة احتاجت إلى قليل من الشعبوية، بينما الشعبوية لم تكن في حاجة إلى قليل من الديمقراطية، على رأي المفكر السياسي الألماني "لوثر بروسبيت".

بعد سنتين من تأبيد العجز الواضح على تغيير تضاريس المشهد البائس للشأن العام، ولحياة التونسيين، يقفز من جديد سؤال البدايات عن الهوية السياسية للرجل، فبعد تصنيفه في خانة الشعبويين، يصدُر كتاب جديد للصافي سعيد "جمهورية الخطر الدائم" (مسكلياني، تونس، 2023)، ليقلب معطيات كثيرة كادت أن تترسّخ حول قناعة بعض النخب بشعبوية الرئيس، يرى الصافي سعيد أنه لا يكاد يجد شبها أوشبيها لقيس سعيّد في طابور الشعبويين الذين عرفهم القرن الماضي، فهو كما يقول "الشعبوي المكتفي بذاته وفي نفس الوقت غير الواعي بشعبويته". ويدلل الكاتب على ما يذهب إليه باعتبار أن قيس سعيّد ليس من الصنف العنصري الفاشي الذي عرفته أوروبا مرتين خلال القرن الماضي، وذلك قبيل الحرب العالمية الثانية وخلالها، ثم الموجة العنصرية خلال زمن العولمة، ولا من الصنف الأميركي اللاتيني بوجهيه اليميني واليساري من بيرون (الأرجنتين) إلى فارغاس (البرازيل) ومن عمر تونيخوس (بنما) إلى تشافيز (فينزولا) ومن كارلوس (تشيلي) إلى فوجيموري (بيرو) ولا هو من الصنف الأفريقي أو الآسيوي للشعبويين، أمثال سيكوتوري وجوليوس نيريري وجمال عبد الناصر ومعمّر القذافي وسوكارنو.

لم يعلن قيس سعيّد عن أي برنامج، ولم يفصح عن أية أهداف واضحة، فيما عدا اهتمامه بتغيير النظام الانتخابي ليجعله قاعدياً

وفي تأمل ما يراه الصافي سعيد، يمكن القول إن قيس سعيّد ليس شعبويا بمواصفات أدبيات الشعبوية، فهو نسيج لوحده قادم من كوكب آخر، كما يقول هو عن نفسه. ومع التوغل في جدل الهوية السياسية لقيس سعيّد بغرض تصنيف هذه الشخصية الغريبة، وبالرجوع إلى مقارنات أخرى بينه وبين شعبويين اشتهروا في ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته، نعثر على نقاط تشابه بين سعيّد وغيتولو فارغاس في البرازيل مثلا، منها إعلان حالة الاستثناء وكتابة دستور جديد وإجراء استفتاء عام وسريع والقيام باستشارة شعبية عبر البريد. لكن الملاحظ، رغم الشبه القائم، أن شعبويّة قيس سعيّد تبدو فارغة من أي مضمون محدّد، ولا تحمل أي مشروع اقتصادي أو سياسي جديد سوى ما يردّده من خطاب تعمية والتباس وغموض واتهام الآخرين جزافا الذين لم يركبوا معه السفينة بالتآمر على مصالح الشعب ومقوّمات الدولة. واللافت أننا، بتحليل هذا الخطاب المتكرّر، لا نكاد نعثر فيه على ما يدلّل أو يشير إلى هوية يسارية، فلم نسمعه يوما يندّد بالنظام الرأسمالي الذي صنع تمثيلية الديمقراطية الليبرالية، أو ينتقد اجتياح العولمة واحتكار الكارتيلات العالمية للثورات الوطنية، كما هو يمتنع عن نقد الإمبريالية ويتحاشى خطوط الصدام مع الغرب، سواء عبر تأميم الثروات أو عبر التموقع السياسي على منصّة الصراع الدولي، كما يخلو هذا الخطاب من أي تموقع جيواستراتيجي أو إقليمي أو مغاربي. وقد كشفت أزمة الهجرة واللجوء التي تجتاح تونس حاليا هذا النزوع الانفرادي لهذا الخطاب. وكان من الأجدى أن يباشر سعيّد نقاشاته مع أوروبا حول الهجرة في إطار مغاربي أو أفريقي أو عربي. وفي المقابل، يمارس هذا الخطاب ازدواجية فجّة، فهو خطابٌُ للداخل وآخر للخارج، خاليان من التصورات والرؤى والحلول الناجعة للخروج من الأزمات، باستثناء التهويمات الهلامية بشأن الشركات الأهلية مثلا والبناء القاعدي واسترجاع الثروات المنهوبة، وصولا إلى تصوّرات إنقاذ الإنسانية قاطبة. وفي المحصلة، نبّهت كبيرة المحللين في مجموعة الأزمات الدولية، كلوديا غاري، ( 4 يوليو / تموز الجاري) إلى ضرورة استعداد المجتمع الدولي لسيناريو تخلف تونس عن سداد ديونها، والذي ستكون له عواقب اجتماعية اقتصادية كبيرة وتداعيات سياسية وأمنية خطيرة، ليست فقط على مستوى تفاقم الهجرة غير النظامية إلى أوروبا. ولكن أيضا باتجاه تكثيف نسق التهريب عبر ليبيا والجزائر وارتفاع منسوب الاعتداءات العنيفة والحوادث الإجرامية، وهذا ما يحصل فعلا اليوم في الراهن التونسي (مدينة صفاقس نموذجا) وعنف الصراع الدائر بين السكان المحليين واللاجئين الوافدين من أفريقيا جنوب الصحراء.

قيس سعيّد أقرب إلى نمط الحاكم التسلّطي الذي يعتمد ترسانة الفولكلور الشعبوي البسيط والخطابات المكرّرة واللغة المبهمة والأرقام المتعثرة

تأسيسا على ما سبق، يمكن القول، أخيرا، إن مواصفات الزعيم الشعبوي الذي يقدّم نفسه، في أغلب الحالات الشعبوية، منقذا لشعبه من البؤس والضياع، وللغرب قائدا مضادّا للمنظومة الرأسمالية، ومصلحا راديكاليا للديمقراطية، لا تتوفر في ظاهرة قيس سعيّد إلا في مظهرها الرثّ وشكلها البائس، مع ترسانة من الوعود المخاتلة والملتبسة والخلط بين الواقع والخيال في كل الحقول وفي كل الاتجاهات.

قيس سعيّد إذا ليس شعبويا. هو فقط أقرب إلى نمط الحاكم التسلّطي الذي يعتمد ترسانة الفولكلور الشعبوي البسيط والخطابات المكرّرة واللغة المبهمة والأرقام المتعثرة، حيث يختلط المتن والهامش والتشخيص والاستنتاج والشرح والتأويل، بعيدا عن القرار الصائب والدواء الناجع، سباحة في مياه التوتر، وليس غير التوتر، بعبارة فرويد.

35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي