الحرّيات الصحافية في تونس منذ الحماية إلى قيس سعيّد
شهدت تونس صدور أول صحيفة باللغة العربية سنة 1860، وهي "الرائد التونسي". وقد جاء عددها الأول مشتملا على صفحاتٍ تُعنى بالآداب والفنون، وأخرى اهتمت بأحداث متنوعة متعلقة خصوصا بشؤون الدولة العثمانية وقراراتها وبلاغاتها. وصدرت "الرائد التونسي" بطبعة فرنسية في 2 يناير/ كانون الثاني 1883، بعد ترسيم الحماية الفرنسية بسنتين (1881). وظهرت خلال فترة الحماية الفرنسية تسع صحف، أهمها "الحاضرة" في 18 أغسطس/ آب 1888 وتواصل صدورها إلى نوفمبر/ تشرين الثاني 1921 و"الزهرة" (إخبارية سياسية) في 20 يوليو/ تموز 1890، ويعتبرها المؤرّخون والموثقون أقدم الصحف التونسية التي تعرضت لألوان عديدة من الرقابة والمنع بمساندتها في تلك الفترة الحركة الوطنية التونسية الفتيّة.
ومن الناحية القانونية، يعدّ نظام المنع نظاما من خلاله يُحجر ترويج الصحف والإصدارات، رغم عدم وجود إطار قانوني ينظم الإعلام آنذاك، إذ تفيد تقارير وزارة الخارجية الفرنسية التي تضمنتها وثائق الأرشيف العام للحكومة التونسية بأن السلطة الفرنسية توجّست خيفة من هذا النظام المنعي الذي يبدو في ظاهره حاميا للسلطة الحاكمة التونسية المتمثلة في الباي وأسرته، ولكن أيضا لمؤسسات الحماية الفرنسية.
ومن أجل وضع حدٍّ لهذا النظام المنعي، بدأت السلطة الفرنسية في مباحثات بين الإقامة العامة الفرنسية وسلطات الحماية في باريس، للبحث عن مخرج قانوني لوضع نظام المنع من خلال ما تم التوصل إليه، حيث تم وضع أول نصّ قانوني للصحافة المتمثل في الأمرين العليين الصادرين في 14 أكتوبر/ تشرين الأول 1884، واللذين أنهيا مرحلة الفراغ التشريعي ومسألة المنع في غياب النص القانوني. وكانت الدراسات التاريخية والقانونية تتحدّث عن خرق السلطة السياسية ذاتها نظام المنع، عبر إصدار صحيفة "الرائد التونسية" لسنة 1860 التي تعدّ أول إصدار رسمي في الإيالة التونسية، والذي سبقه اتفاق بين التاجر الإنكليزي ريتشارد هولت وسلطات الإيالة (وحدة إدارية في التقسيمات العثمانية)، تم بمقتضاه السماح بإنشاء أول مطبعة رسمية تونسية، وصدرت من خلالها "الرائد التونسي".
إنشاء المطبعة الرسمية وصدور هذه الصحيفة يعتبران أول خرق رسمي من السلطة ذاتها لنظام المنع القائم آنذاك في الديار التونسية. ولئن اختلف الباحثون والدارسون لتاريخ الإعلام والصحافة في تونس بشأن أول إصدار في البلاد، فإنه وإن أجمع المؤرّخون على "الرائد التونسي"، إلا أن الصحيفة الأولى التونسية باللسان الإيطالي التي خرقت نظام المنع السائد آنذاك هي صحيفة "الكرتاجي دي تونزي" التي صدرت في سردينيا بإيطاليا وتوزّعت أعدادها في الإيالة التونسية سنة 1838.
وإن كان نظام المنع السائد قانونا وممارسة ما قبل ثمانينيات القرن ما قبل الأخير، ونعني بذلك قبل بدء الحماية الفرنسية في تونس 1881، إلا أن رواج الصحف في الإيالة كان متاحا عير الخط الحديدي المنتشر في الجزائر، والذي مكّن من وصول عدد من الإصدارات من مصر وأستانة بتركيا.
اعتمدت سلطات الحماية الفرنسية على سلاح ورق الطباعة لمنحه وحجبه حسب أهوائها ومخطّطاتها
ورغم نظام المنع، قبل الحماية الفرنسية في تونس، فإن أوجها عدّة للمنع رافقت بشكل مباشر أو غير مباشر تاريخ الصحافة التونسية آنذاك، حيث إن الأمر العلي نفسه، المؤرّخ في 14 أكتوبر/ تشرين الأول 1884، أقرّ، ضمن نصوصه، مبدأ التفرقة العرقية بين الصحف الصادرة بالعربية والعبرية والصحف الأوروبية، سواء الإيطالية أو الفرنسية، من خلال إقراره مبدأ الضمان المالي، والذي ينص على حتمية دفع صاحب الإصدار مبلغا ماليا قبل القيام بعملية إصدار صحيفته. وهذا بدوره يعتبر نظام تفرقةٍ، ومنعا ضمنيا لرواج الصحف الصادرة بالعربية والعبرية، وهو ما يشكل عبئا ماليا على هذا النوع من الصحف، ما يفسّر محدودية انتشار الصحف الصادرة بهاتين اللغتين، لكن هذا الوضع لم يدم طويلا، ليتم إلغاء العمل بنظام الضمان المالي سنة 1887.
ولئن كانت سمات المنع الضمني جاءت بنصوص الضمان المالي، فإن الأمر تواصل مع نصوص قانونية أخرى، أوجبت العمل بنظام الإيداع القانوني، وذلك مع مطلع القرن العشرين، ولا يمكن أن نغضّ الطرف عن مسألة المنع، وتحديدا مع بداية العشرية الثانية للقرن الماضي، وتحديدا سنة 1911، مع أحداث الجلاز الدامية التي فجّرت مواجهة كبيرة بين قوات الاحتلال الفرنسي والوطنيين التونسيين، تم على أثرها إصدار أمر بمنع الصحف العربية الصادرة آنذاك باستثناء "الزهرة". وتواصل نظام المنع المتعلق بالصحافة الصادرة بالعربية إلى حدود سنة 1920، حيث تم إلغاء نظام المنع، وعادت الصحف التونسية العربية إلى الصدور.
وقد أخذ نظام المنع شكلين آنذاك، قضائيا وإداريا، أي أن إجراءات قضائية وإدارية اتخذت آنذاك إزاء عدة صحف، كانت مضامينها مناوئة لسلطات الحماية. ولعل العشرية الثانية من القرن الماضي تشكّل محطة تاريخية في هذا الجانب، فمع انتشار الفكر الاشتراكي، باتت سلطات الحماية الفرنسية تتوجّس خيفة من الصحف ذات التوجهات الاشتراكية، إذ إن القانون لا يمكّنها من التعطيل النهائي، وصدور صحف مثل "المهضوم"، ليتم تعطيلها إداريا لتصدر من الغد تحت تسمية أخرى كـ"المظلوم" و"النصير"، ما أجبر السلطات الفرنسية على منع عدد مهم من الصحف، لكنها، في النهاية، أجبرت على إصدار نص قانوني لمنع انتشار هذا النوع من الصحف، المتمثل في الأمر العلي الصادر في الرابع من يناير/ كانون الثاني 1922.
لعل الترسانة القانونية التي جعلت سلطات الحماية الفرنسية تلجأ إلى منع الصحف المناوئة لها كانت متعدّدة، كالأمرين المؤرّخين في يناير/ كانون الثاني 1926، المعروفين بالقانونين الجائرين، إضافة إلى الإجراءات القانونية التي جرى اتخاذها خلال الحرب العالمية الثانية لمنع إصدار الصحف المناوئة للسلطة ومراقبتها عسكريا.
وإثر الحرب العالمية الثانية، لم يعد المنع بتوجّه قانوني، بل أخذ المنحى الاقتصادي شكلا آخر للمنع، حيث اعتمدت سلطات الحماية الفرنسية على سلاح ورق الطباعة لمنحه وحجبه حسب أهوائها ومخطّطاتها، ما أجبر عدة صحف على الاحتجاب من الصدور أو التقليص من عدد أوراقها.
بعد الاستقلال
ولئن جمعت مرحلة الحماية الفرنسية بين المنع والتسامح في تعاملها مع الصحف التونسية الصادرة آنذاك، فإن تونس الاستقلال (1956) عرفت شكلا آخر من المنع بطريقة صريح العبارة أو بشكل ضمني، وذلك من خلال الفصول القانونية التي جاء بها القانون عدد 32 لسنة 1975 المعروف بمجلة الصحافة. وقد اعتبر نص هذا القانون منعيا في أكثر من جانب، حيث اشترط لصدور الصحف وطباعتها حصول صاحب الامتياز على وصل الإصدار. وجرم القانون المطابع وكل من يصدر صحيفة أو مطبوعة من دون وصلٍ قانوني. وبذلك كان هذا النظام المنعي، من دون الإشارة إلى ذلك بصريح العبارة، وتم الطعن في مشروعية هذا النص ودستوريته، حيث ينصّ الدستور التونسي الصادر سنة 1959، في فصله الثامن، صراحة على حرية الإعلام والصحافة والاجتماع. وتحيل طرق ضبط هذه الحرية وأساليبه إلى النصوص القانونية، لكن قانون الصحافة لسنة 1975 كان بموجب ذلك غير دستوري. وعلى الرغم من دفوعات لسان الدفاع في جل المحاكمات السياسية بعدم دستورية هذا النص، رفضت السلطة القضائية الإنصياع ومجاراة طلبات الدفاع، واعتبرت أن من أهلية القضاء النظر في دستورية القوانين، خصوصا وأن لا وجود لهيئة دستورية تراقب دستورية القوانين.
استغلت السلطة السياسية قانون إبريل 1975 لمقاضاة الصحف المناوئة لها آنذاك
وقد طرحت مسألة دستورية القوانين أيضا إشكالا سياسيا خلال مرحلة حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي (1987 -2011)، حيث تجرّأ القضاء، لأول مرّة سنة 1988، على إصدار حكم من المحكمة الابتدائية في القيروان التي أجازت للقضاء النظر في مدى دستورية القوانين. وكاد أن يشكّل هذا المنعرج التاريخي القضائي نقلةً نوعية في مسألة دستورية القوانين، نظرا إلى مبدأ علوية الدستور على النصوص القانونية الأساسية أو العادية، وحيث إن محكمة الاستئناف بسوسة اتجهت نفس منحى محكمة القيروان لتقر بمبدأ مراقبة القضاء دستورية القوانين لكن محكمة التعقيب نقضت الحكم الاستئنافي، واعتبرت أن القضاء لا أهليّة له في مراقبة دستورية القوانين.
وقد استغلت السلطة السياسية قانون إبريل 1975 لمقاضاة الصحف المناوئة لها ومنع رواج كل الأفكار والمطبوعات والمنشورات التي لا تتماشى ونهج السلطة السياسية القائمة آنذاك، على الرغم من إحداث مجلس دستوري، لكن صلاحيته كانت شكلية واستشارية، ولا ترتقي إلى مسؤولية إصدار قرارات بعدم الدستورية أو بجواز الدستورية.
وتاريخ الصحافة التونسية غنيّ بوقائع المنع، سواء من خلال المحاكمات السياسية أو محاكمة أصحاب الصحف وتعطيل الإصدارات المناوئة لخيارات النظام، رغم أن النظام انفتح، منذ ثمانينيات القرن الماضي، على حركات المعارضة، كحركة الديمقراطيين الاشتراكيين التي أصدرت صحيفتي "الرأي" بالعربية و"الديمقراطية" بالفرنسية. وتم رفع المنع عن صحيفة اليسار لتعود "الطريق الجديد" إلى الصدور، وهي الناطقة بلسان الحزب الشيوعي، علما أن صحف اليسار، وتحديدا "الطليعة" تم منعها إثر المحاولة الانقلابية التي استهدفت نظام الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة سنة 1962، وكذلك صحيفة الموقف لأحمد نجيب الشابي زعيم ائتلاف المعارضة لقيس سعيّد.
بقدر ما اعتمدت تموّجات العلاقة بين السلطة السياسية الحاكمة والصحافة النصوص القانونية، كانت أيضا تعتمد نهج المراوغة والتلميح والتصريح، لدعم ذاك وحجب الدعم عن ذاك. وتجسّد ذلك من خلال وكالة الاتصال الخارجي في عهد الرئيس السابق، بن علي، والتي كانت تمنح الدعم المالي للصحف المناصرة لتوجّهات النظام وتحجُبها عن الأخرى المناوئة له.
بعد ثورة 2011
وبقيام ثورة 14 يناير (2011)، اعتبر أهل القطاعين، الإعلامي والسياسي، في تونس أن بلادهم دخلت مرحلة جديدة بانفتاحها على الانتقال الديمقراطي ومجال الحريات عموما، وخصوصا حرية الرأي والتعبير والإعلام، إذ حققت الثورة إنجازا مهما في هذا المجال، تمثل في منح وسائل الإعلام وأهله الحرية التامة للتفكير والتعبير، وتكوّنت بذلك الهيئات الهادفة إلى تقنين هذا الإنجاز، وسنّ الصيغ القانونية اللازمة، تنفيذا لما تنصّ عليه المؤسّسات الدستورية، إذ رافق هذه الإجراءات إنشاء الهيئة الوطنية المستقلّة لإصلاح الإعلام والاتصال، والتي أصدرت المرسومين، 115 و116، كما ألغت كل الصيغ المعروفة بمجلة الصحافة بمختلف مراحلها (1975 – 1988 - 1993 ونسخة 2001). وينص المرسوم عدد 115 في فصله الـ79 على إلغاء جميع النصوص السابقة، وخصوصا مجلة الصحافة الصادرة بالقانون عدد 32 لسنة 1975. كما شهدت هذه المرحلة إلغاء وزارة الإعلام التي كانت في العهدين السابقين للثورة تمارس سلطة المنع والرقابة. كما شمل المرسوم 115 بعدا تحرّريا بالمؤلفات الفكرية والأدبية والفنية، مع ضمان حقوق الصحافيين وواجباتهم، وحدود المسؤولية التي عليهم أن يلتزموا بها. ومن مزايا هذا المرسوم الجديد منع أي فرض على حرية تناول الحريات والوصول إليها، مكرّسا الحقّ في الإعلام الحر والتعدّدي. وتكفي الإشارة إلى أن هذين المرسومين قد ألغيا العقوبة السالبة للحرية بالنسبة للصحافيين والمبدعين عموما.
حقّقت الثورة التونسية إنجازاً مهماً تمثل في منح وسائل الإعلام وأهله الحرية التامة للتفكير والتعبير
ومع إجراءات 25 يوليو (2021)، وإلغاء المؤسّسات الدستورية، وسن الحكم بالمراسيم، تراجعت مكتسبات تونس في مجال الحرّيات الصحافية والحرّيات عامة، ما جعل الأغلبية من المراقبين يعتقدون أن زلزالا مهولا قد حدث في مستوى الحرية الإعلامية والحريات عامة، لتبدأ المحاكمات القضائية للصحافيين والمعارضين والسياسيين إجمالا، بموجب المرسوم 54 الذي سنه رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، ويعتبره الجميع سيفا مسلّطا على حرية الفكر والتعبير، إذ يتساءل هؤلاء: هل أصبحت مهنة الصحافة مخيفةً إلى هذا الحد؟ وكيف يتبيّن الصحافي مستقبل هامش الحرية الصحافية؟ وأين تنتهي؟ بعدما أصبح سجن الصحافيين سهلا وأمرا واقعا.
وفي هذا السياق المظلم، ينضاف إلى ما يشهده قطاع الصحافة وحرية التعبير من ضغط وتهديد بالسجن قرارٌ صادر عن قاضي التحقيق بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب، يمنع التداول الإعلامي في ما تُعرف بقضية التآمر على أمن الدولة، في الوقت الذي يطالب فيه المجتمع المدني وأهل الموقوفين وزملاؤهم وأغلب الصحافيين والرأي العام الدولي بضرورة إنارة الرأي العام بشأن قضية التآمر على أمن الدولة، وحقيقة التهم الموجّهة إلى الموقوفين منذ أشهر، داعين الهياكل القضائية المعنية إلى توضيح هذه القضية والتصريح بالتهم المنسوبة إليهم، ما جعل نقابة الصحافيين التونسيين التي أكّدت، في تقريرها السنوي، أن حرية الصحافة في تونس في خطر، تعلن مطلع هذا الأسبوع عن توجّهها إلى الطعن في هذا القرار، داعية القضاء إلى الانتصار لمبدأ الحرية والابتعاد عن منطق التعتيم والرقابة المسبقة.
وتأسيسا على ما سبق، السؤال الذي يبقى قائما: إلى أي مدى تواصل السلطة ورئيسها الماسك كل السلطات والرافض للحوار ومراجعة نهجه السياسي السير في هذا التمشّي الزاجر للحريات العامة عموما، والإعلامية تحديدا، بسنّ المراسيم المانعة هذه الحريات وفتح أبواب السجن لكل من يخترقها أو يعتبرها غير قانونية؟