تونس.. الدولة والتحديث القسري

05 اغسطس 2018
+ الخط -
أثار التقرير الصادر في تونس، قبل أسابيع، عن لجنة الحريات الفردية والمساواة التي كلفها الرئيس الباجي السبسي، عدة ردود أفعال تراوحت بين الرفض والتأييد، مع ما بينهما من تباينات ودرجات، وكان هدف اللجنة تجديد المدوّنة التشريعية المتعلقة بالحريات الفردية والمساواة وتصفية بقايا التحفظات والعراقيل التي تحدّ من الحريات الفردية والمساواة الكاملتين على ضوء مقتضيات دستور 2014، والمعايير الدولية الواردة في المواثيق والعهود الدولية، وهي تحفظاتٌ ثقافيةٌ مجتمعيةٌ، تشكلت من رواسب المعتقدات والتصورات التقليدية القادمة تحديدا من الثقافة الإسلامية (الإرث، القوامة، التبني، الختان.. الموقف من المثلية...)، أو تحفظاتٌ قانونيةٌ عبرت عنها الدولة التونسية، فيما مضت عليه من اتفاقيات. تطمح اللجنة إلى تكريس التوجهات الجديدة في مجال الحريات الفردية والمساواة، خصوصا فيما يتعلق بإلغاء كل أشكال التمييز القائمة على الهوية الجندرية والميول الجنسية والوصاية على أجساد الآخرين، فضلا عن توسيع دوائر حماية حرية الأفراد وتصرّفهم الحر في ذواتهم وأجسادهم ومعتقداتهم، من دون حد، إلا ما نصت عليه القوانين المتطابقة مع هذه التوجهات.
عيّن رئيس الجمهورية أعضاء هذه الهيئة من جامعيين وفنانين وحقوقيين، عرفوا بميولهم الحداثية، غير أنه لا علاقة لبعضهم بمثل هذه المسائل الحقوقية العقائدية المتشعبة والحسّاسة، فباستثناء الجامعي، محمد الشرفي، فإن الأعضاء الآخرين لم ينتج أحدهم مؤلفا واحدا في الغرض هذا، من دون حشر الإعلامي والكاتب صلاح الدين الجورشي أيضا الذي نشر مقالاتٍ في الصحافتين، التونسية والعربية، في هذه البقية، فقد كان الرجل من مناضلي الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، وهو أحد وجوه من عرفوا بالإسلاميين التقدّميين، بعد تجربة انتماء للحركة
 الإسلامية في تونس، حين كانت تسمّى الجماعة الإسلامية في منتصف سبعينات القرن الماضي، وسرعان ما انفصل عنها، ليخوض فيما بعد تجارب فكرية غير منتظمة أو متحزّبة، ثم يتفرّغ للعمل المدني والإعلامي. ويرى بعضهم أن هذا التعيين، وإن كان استحقاقا للرجل، فإنه كان أيضا من باب إضعاف الاعتراضات التي قد توجه للجنة، وهي حقيقة ثابتة، على تغييب الإسلاميين، وإقصائهم من العضوية، إذ لا يستوعب تونسيون كثيرون غياب المفكر الإسلامي المستنير وعضو الأكاديمية التونسية (بيت الحكمة)، أحميدة النيفر، مثلا، خصوصا وأن الرجل ساهم في تجديد الفكر الديني، وهو صاحب تكوين متين في الحضارة العربية ولغتها. لذلك ظلت التركيبة غير متوازنة، فلقد غاب عنها أيضا علماء الزيتونة في نسخته الأصلية (ما تبقى من خريجي جامع الزيتونة الأعظم) أو خريجي الجامعة الزيتونية الحديثة التي عوّضته منذ إلغاء التعليم الزيتوني سنة 1958. على خلاف هذا الغياب المفرط، حضرت وجوهٌ لم تكن يوما منخرطةً في النضال الحقوقي، أو الفني، في قضايا الحريات الفردية أو المساواة، باستثناء المحامية والمناضلة الحقوقية، عضو مجلس النواب، رئيسة اللجنة، بشرى بلحاج حميدة.
أثار التقرير جدلا واسعا بين مختلف النخب التونسية، وانقسمت الى كتلتين متباينتين، فمنهم من أبدى موافقته، منتصرا للأطروحة التي قدمها التقرير، ومنها من اعتبره مناهضا لخصوصية المجتمع التونسي، ومحاولة لسلخه من انتمائه الحضاري العربي الإسلامي، وكان الدستور التونسي في ذلك كله قميص عثمان الذي يستعمل لدعم الأطروحة ونقيضها.
اللافت للانتباه هو التحفظات التي عبر عنها مثقفون وجامعيون من غير المحسوبين على الإسلاميين، والتي تعود في الأصل إلى اعتقادهم أن التقرير يخطف الدولة، ويزجّها في أتون نزاعات عقائدية ومواضيع خلافية، هي من مشمولات النخب الثقافية والسياسية التي يُفترض أن تحولها إلى برامج جدل فكري ومشاريع انتخابية متنافسة، تشكل بها تعبئة وحشد للرأي العام، قبل أن يحسم فيها ممثلو الشعب، عبر مشاريع القوانين، في شكل مبادرات تشريعية، خصّ بها الدستور ثلاث هيئات هي رئاسة الجمهورية والحكومة والكتل النيابية، حين تعرض تلك المشاريع على التصويت في مجلس النواب الذي يجسّد الإرادة الشعبية. إنها قضايا خلافية، لا يمكن حسمها بمجرّد تقرير صادرٍ عن لجنةٍ، ليس لها أي صلاحيات تشريعية، وقد أبدى أستاذ القانون، توفيق بوعشبة، على الرغم من انتمائه للحزب الحاكم، رفضه سطو اللجنة على صلاحيات غيرها، فضلا على مخالفة مقترحاتٍ عديدة فصول الدستور حسب اعتقاده، خصوصا وأن التقرير ينتهي بمشاريع قوانين. وقد عبّر أستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية، عبد اللطيف الهرماسي، عن موقفٍ شبيه، اعتبر فيه أن التقرير يستحوذ على الدولة، ويمارس بها وصاية على المجتمع، في ضربٍ من التحديث القسري الذي اعتقدنا أن الثورة وضعت حدا له حسب اعتقاده، وقد نشر هذا الموقف في نصٍّ مطولٍ في صحيفة يومية.
استيلاء بعض النخب على الدولة، من خلال أجهزتها وإمكاناتها، حسب بعضهم، لحسم تلك الخلافات، بعد اعتداء على الدولة نفسها، والمجموعة الوطنية، إذ يفترض أن تكون الدولة 
تجسيدا للإرادة العامة، فالدولة في الأصل دولة التعاقدات الكبرى، والتوافقات المجتمعية. وليس من وظيفتها أن تكون أداة وذراعا لفريق دون آخر. لهذا يعبر هؤلاء عن تحفّظهم على تصرف اللجنة التي مارست نوعا من "الأستذة"، فكأن أعضاؤها يقدّمون درسا في الحريات والمساواة، باعتباره النسخة الوحيدة للحداثة، ووصفة التقدم والتحديث الملهمة، ما يعمّق حالة الثنائية والانقسام الحادّين إلى حد التضاد بين الدولة والمجتمع التي ميزت دول المغرب العربي، وتونس خصوصا، مند أكثر من نصف قرن. واعتبر آخرون التقرير مسقطا على واقع سياسي واقتصادي صعب تمر به تونس، وهو حسب رأيهم ليس من أولويات اللحظة الراهنة التي تحتاج فيها تونس، حتى لا يتعثر انتقالها الى إصلاحات اقتصادية، تخفف من حدّة البطالة واللامساواة بين الجهات، وتحقيق نمو يعود خيرا على مستوى عيش الناس، ونوعية حياتهم، وهم الذين ملوا تجاذب المشاريع السياسية المتناحرة.
النموذج التحديثي التي قدمته تونس، كما أشار إلى ذلك أكثر المختصين موضوعية (الهرماسي عبد الباقي، بارتران بادي..) هو تحديث قسري، سلطته مختلف النخب المتعاقبة على الحكم، استنادا إلى قوة الدولة المادية والرمزية، وتحديدا عبر التشريع. وإذا كان علماء الاجتماع يردّدون باستمرار مقولة عالم الاجتماع الفرنسي، ميشال كروزيي، إننا لا نستطيع تغيير مجتمع من خلال القوانين، فإن الحالة التونسية تفند ذلك، إذ استطاعت النخب التونسية أن تغير المجتمع، وبأشكال عميقة من خلال تلك القوانين تحديدا (مجلة الأحوال الشخصية، مجلة حقوق الطفل.. إلخ). يعترض بعضهم على مواصلة هذا المنحى، في ظل ما تحقق خلال أكثر من نصف قرن، وتحديدا ما كسبته النخب بعد الثورة: حرية وتعدّدية وحق التنظيم، ما يمنح جميع أطياف النخب التونسية أقدارا متفاوتة من الظهور والتمثيلية بحسب حجمها، إذ لم يعد من الجائز السطو على الدولة وتوظيفها بشكل فوقي، لفرض مشاريع مجتمعية خلافية. ولكن علينا أن ننسب هذا التحفظ أيضا، فالبلاد قد عرفت نخبا تحديثية رائدة، مند أواخر القرن التاسع عشر، إذ تشكلت البلاد على قاعدة ورش للتحديث، قلّ نظيرها في البلاد العربية. وليس من المصادفة أن تكون تونس قد عرفت تجارب إلغاء الرق منذ منتصف القرن التاسع عشر، فضلا عن حرية العمل النقابي وإلغاء تعدّد الزوجات وميلاد رابطة حقوق الإنسان، ونشأة الجمعيات النسائية المستقلة ... إلخ، فتونس لم يكن لها أن تبلغ هذا الشوط المتقدّم من التحديث، لولا ذلك الرهان على الدولة نفسها التي نزلت بكل ثقلها، من أجل تكريس تلك التوجهات، حيث صاغت تشريعات ووضعت إمكانات، وحوافز للغرض.
ستكون الأيام القليلة المقبلة مؤشرا على مصير هذا التقرير، ويبدو أن الغاضبين منه بصدد تنظيم جملة من التظاهرات الاحتجاجية.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.