فرحة ميلوني بتراجع تدفّقات الهجرة
لم تستطع رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني إخفاء فرحتها الكُبرى بتراجعٍ ملحوظٍ لتدفقات المهاجرين الواصلين إلى شواطئ بلادها الجنوبية. لذلك، لم تكفّ منذ الثلاثاء الماضي عن إطلاق التصريحات المتتالية التي تقدّم فيها إحصاءات دقيقة عن هذا التراجع الحادّ. ربحت ميلوني الرهان، وهي التي خاضت حملتها الانتخابية على خلفية تعهّداتها بمكافحة ظاهرة الهجرة، ضمن خطاب شعبوي لا يرى في الهجرة سوى مشكلاتٍ وأعباء تُلقيها الدول الفقيرة على إيطاليا، تحديداً. استغلّت جورجيا ميلوني الأزمة الاقتصادية الحادّة، التي مرّت بها بلادها بعد جائحة كوفيد المؤلمة، وانطلاقَ حرب ضروس ليست بعيدة عن بلدها، وضعت، وجهاً لوجهٍ، روسيا وأوكرانيا. المزاج الشعبي الإيطالي مُتبرّم من المهاجرين، وهو ينسب إليهم جميع مشكلات إيطاليا؛ ارتفاع الجريمة، والبطالة، والأمن الاجتماعي، وغلاء أسعار الإيجار... إلخ.
تنقل وكالة الأنباء الإيطالية (نوفا)، عن ميلوني تصريحات أدلت بها في بداية الأسبوع الماضي، قالت فيها إنّ تدفقات الهجرة تراجعت بنسبة تقدر بـ60%. زيارتها إلى ألبانيا؛ الدولة الأوروبية التي لم تنضمّ بعد إلى الاتحاد الأوروبي، في نطاق إشرافها على افتتاح مركز كبير لإيواء المهاجرين، الذين يُنقذون من السواحل الإيطالية، هي مكافأة "لنموذج ناجح" يمكن تعميمُه على بلدان أخرى، قد لا تكون أوروبية بالضرورة، وهي تتطلّع إلى موافقة تونس وبعض البلدان المغاربية الأخرى لتسلك على هذا المنوال. لقد طرحت ميلوني في زياراتها، العديدة والمُتكرّرة إلى تونس، هذا المُقترح. ولكن، يبدو أنّه قوبل بتحفّظ كبير من السلطات التونسية، وهي التي قادت شراكتها مع إيطاليا في مكافحة الهجرة السرّية تحت لافتة "لا لتوطين المهاجرين"، على اعتبار هجرتهم مُؤامرة تستهدف التركيبة الديموغرافية للبلاد، وهُويّتها العربية.
التزمت تونس بمكافحة الهجرة السرّية، ولعبت دور جدار الصدّ الذي تتكسّر عليه كلّ موجات الهجرة القادمة من أفريقيا
لم تنشر مُذكّرة التفاهم التي وقّعتها السلطات التونسية مع نظيرتها الإيطالية، حتّى نعرف تفاصيل هذه الشراكة، ولكن الأوضاع على الأرض، وبعض التصريحات الرسمية، تكشف أنّ تونس قد التزمت بمكافحة الهجرة السرّية، ولعبت دور جدار الصدّ الذي تتكسّر عليه كلّ موجات الهجرة القادمة من أفريقيا. وفعلاً، لم تُفوّت ميلوني الفرصة في آخر تصريحاتها، حين زفّت للإيطاليين ذلك التراجع الحادّ في تدفقات الهجرة خلال السنة المُنقضية، حتّى تتوجّه بالشكر إلى تونس، وهي التي أبلت البلاء الحسن في التصدّي للمهاجرين. لذلك، تعترف ميلوني بأنّ هذه النتائج ما كانت لتتحقّق لولا "الجهد الكبير الذي بذلته دول شمال أفريقيا، وتحديداً تونس وليبيا". ومع ذلك، تفيد الإحصاءات الدقيقة بأنّ عدد المهاجرين الواصلين إلى إيطاليا، انطلاقاً من الشواطئ التونسية، قد تراجع، حتّى أنّ تونس تعدّ البلد الأول الذي ينطلق منه المهاجرون الواصلون إلى الشواطئ الإيطالية، بل عوّضتها في هذا الترتيب ليبيا، رغم كلّ الجهد المبذول، وفي كلّ الحالات، لم تعد محطّات الانطلاق مُهمّة في ظلّ التراجع الكبير لأعداد المهاجرين الواصلين إلى إيطاليا.
ما سكتت عنه رئيسة حكومة إيطاليا هو الجزء المخفي من جبل الجليد هذا. لا نعرف إن كانت تدفقات الهجرة هذه قد تراجعت من البلدان الأصلية أم ظلّت على حالها؟ تفيد كلّ الوقائع بأنّ التدفقات تواصلت بالنسق نفسه منطلقةً من تلك البلدان بالذات. إذ لا شيء تحسّن في حياة الناس، بل تزداد الأمور، هناك، سوءاً. التغيرات المناخية الحادة التي تشهدها القارّة، حالياً، علاوة على الحروب الأهلية التي تُمزّق بلداناً عديدة إثر الانقلابات العسيرة، التي حدثت خلال السنوات الماضية، تشي بأنّ تدفقات المهاجرين لم تتراجع، وبأنّها توجّهت إلى بلدان شمال أفريقيا على أمل الوصول إلى الشواطئ الإيطالية، رغم أنّ بعضها غيّرت من مسالك الهجرة المُتّبعة، مفضلةً العبور إلى القارّة الآسيوية، أي جعلت مضيق باب المندب جسراً للعبور. إنّها رحلةٌ طويلةٌ وشاقةٌ وغير آمنة، وقد تكون مُؤقّتة في كلّ الأحوال.
طال مكوث المهاجرين في تونس، وقد غدوا عرضة إلى جُلّ الانتهاكات الجسيمة لحقوقهم الإنسانية
سنحتاج قليلاً من النكد حتّى تبدو لوحة السعادة، التي تعيشها ميلوني، كاملةً من دون حُجُب، فإذا كانت أعداد اللاجئين الواصلين إلى الشواطئ الإيطالية في تناقصٍ واضح، وهذا مُؤكّد، فإنّ الجزء الأكبر منهم قد ظلّوا محاصرين في مسالك وعرة ومسدودة، بعد أن تحولت بلدان شمال أفريقيا، وتحديداً تونس، مصيدة للمهاجرين غير القادرين على الدخول إليها مطلقاً لأسباب عديدة، لعلّ أهمّها المراقبة الأمنية الشديدة التي تمارسها قوات الأمن في الشواطئ التونسية، بحكم التزاماتها مع إيطاليا، وهي التي تعهّدت بتحديث أسطول المراقبة لفائدة القوات البحرية التونسية. لذلك، طال مكوث المهاجرين في تونس، وقد غدوا عرضة إلى جُلّ الانتهاكات الجسيمة لحقوقهم الإنسانية. وكلّما طالت إقامتهم، كانوا عرضة لأشكال مختلفة من المعاملة القاسية. في هذه المصيدة الكُبرى للمهاجرين تنشط مُختلف شبكات الاتجار بالبشر، ويغدو الهروب منها حلماً، حتّى ولو على قوارب مُتهالكة. لذلك، نفهم، تماماً، ارتفاع عدد ضحايا هذه المغامرة القاتلة؛ تفيد الإحصاءات بأنّ عدد المفقودين قد ناهز 2500 في العام 2023، أي بزيادة قدرها 75% مقارنة بالعام 2022.