07 نوفمبر 2024
نهاية روائي شجاع
فوجئ كثيرون، أول من أمس الثلاثاء، عندما أعلن خبر رحيل الروائي العربي الكبير، حنا مينة، ذلك أن خبر موته سبق وأن نشر مراتٍ في السنوات الأخيرة، حتى لم يعد المرء يعرف إن كان صاحب "الشراع والعاصفة" قد رحل فعلاً، أم ما زال يصارع العاصفة على قيد الحياة. ومما فاقم الحيرة أنه أوصى، في وصية شهيرةٍ، كتبها قبل سنوات، بعدم إعلان خبر وفاته في وسائل الإعلام، وبرّر رغبته الغريبة تلك بأنه كان بسيطا في حياته، ويرغب في أن يكون بسيطا في مماته، وقال في تلك الوصية؛ "ليس لي أهل، لأن أهلي، جميعاً، لم يعرفوا من أنا في حياتي، وهذا أفضل. لذلك ليس من الإنصاف في شيء أن يتحسّروا عليّ عندما يعرفونني، بعد مغادرة هذه الفانية".
ولا أدري إن كان مقالا كهذا سيبدو نوعا من الإعلان عن موته، على عكس رغبته أم لا، لكن ما يغفر لي إن كان كذلك أن الخبر قد أعلنته فعلا كل الوسائل الإعلامية التي أوصاها بتجاهل الخبر، ما يدل على أن رغبات الكتاب ليست سوى ذرّات غبار تذروها رياح الكلمات!
ويبدو أن الموت قد شغل ابن الساحل السوري، وخصوصا في النصف الثاني من عمره الذي اقترب من قرن، حتى ليكاد لا يخلو حديث من أحاديثه الصحافية من ذكر الموت، باعتباره قد شبع من الدنيا، كما قال، مع يقينه بأن لكل أجل كتاباً. وقد أمدّه هذا اليقين بشجاعةٍ كافيةٍ لكي يواجه الموت، ويستعد له، قبل أن يتسلم ذلك الكتاب أخيراً، وهو الذي كتبه بصور روائية مثيرة جداً، لعل أكثرها قسوة وقتامة صورة النهاية في رواية "نهاية رجل شجاع"، والتي لشدة قتامتها وقسوتها تغيرت قليلا، عندما تحوّلت الرواية إلى مسلسل تلفزيوني لتناسب المزاج الجماهيري العام، ومعايير التلفزيون التقليدية.
وقبل ذلك المسلسل الذي بث في تلفزيونات عربية كثيرة منتصف التسعينيات، ما أوصل شهرة حنا مينة إلى شريحة غير معتادة بالنسبة إليه، لم يكن ذلك الروائي الذي ولد فقيرا، ولم يكمل تعليمه لهذا السبب، ومارس أعمالا حرفية كثيرة، قبل أن يكتشف ذاته بالكتابة، معروفا لدى كثيرين. لكنه عاش بعد ذلك في شهرة انعكست بأثر رجعي على كل أعماله السابقة والتي بلغت العشرات، فهو أحد أكثر الروائيين العرب غزارة في الإنتاج الكتابي عموما.
وعلى الرغم مما حققته له الكتابة من فرح، جعل منه كاتب الفرح والكفاح، كما كان يقول، إلا أنها لم تكن على صعيد آخر سوى "أقصر طريق إلى التعاسة الكاملة"، وهو يفسّر ما قد يتوهّمه بعض القراء تناقضا بأن "الحياة أعطتني، وبسخاء، يقال إنني أوسع الكتّاب العرب انتشاراً، مع نجيب محفوظ بعد نوبل، ومع نزار قباني وغزلياته التي أعطته أن يكون عمر بن أبي ربيعة القرن العشرين. يطالبونني، في الوقت الحاضر، بمحاولاتي الأدبية الأولى، التي تنفع الباحثين والنقاد والدارسين، لكنها، بالنسبة إليّ، ورقة خريف أسقطت مصابيح زرقاً".
على أن متابعين كثيرين للمشهد الروائي العربي عموما، ولتاريخ حنا مينة مع الكتابة خصوصا، يعتبرون مؤلف "المستنقع" قد وقع هو نفسه كورقة خريف في مستنقع السلطة البعثية في بلاده التي دلّلته كثيرا، على الرغم من شيوعيته المعلنة، والتي تبدّت بأجلى صورها في رواياته الكثيرة.
لم يكن مينة من أولئك النفر من الشيوعيين الذين يعشقون ركوب الموج في مواجهة النظام السياسي الطاغية، لكنه بخبرته البحرية الواسعة صارع الأمواج كلها، وانتهى به الأمر إلى أن يبقى على الساحل، مطمئنا لنهايته التي لا يريد أن يعلنها أحد.. ربما لأنه موقنٌ، في أعماقه، بأنه قد انتهى فعلاً منذ زمن بعيد.
ولا أدري إن كان مقالا كهذا سيبدو نوعا من الإعلان عن موته، على عكس رغبته أم لا، لكن ما يغفر لي إن كان كذلك أن الخبر قد أعلنته فعلا كل الوسائل الإعلامية التي أوصاها بتجاهل الخبر، ما يدل على أن رغبات الكتاب ليست سوى ذرّات غبار تذروها رياح الكلمات!
ويبدو أن الموت قد شغل ابن الساحل السوري، وخصوصا في النصف الثاني من عمره الذي اقترب من قرن، حتى ليكاد لا يخلو حديث من أحاديثه الصحافية من ذكر الموت، باعتباره قد شبع من الدنيا، كما قال، مع يقينه بأن لكل أجل كتاباً. وقد أمدّه هذا اليقين بشجاعةٍ كافيةٍ لكي يواجه الموت، ويستعد له، قبل أن يتسلم ذلك الكتاب أخيراً، وهو الذي كتبه بصور روائية مثيرة جداً، لعل أكثرها قسوة وقتامة صورة النهاية في رواية "نهاية رجل شجاع"، والتي لشدة قتامتها وقسوتها تغيرت قليلا، عندما تحوّلت الرواية إلى مسلسل تلفزيوني لتناسب المزاج الجماهيري العام، ومعايير التلفزيون التقليدية.
وقبل ذلك المسلسل الذي بث في تلفزيونات عربية كثيرة منتصف التسعينيات، ما أوصل شهرة حنا مينة إلى شريحة غير معتادة بالنسبة إليه، لم يكن ذلك الروائي الذي ولد فقيرا، ولم يكمل تعليمه لهذا السبب، ومارس أعمالا حرفية كثيرة، قبل أن يكتشف ذاته بالكتابة، معروفا لدى كثيرين. لكنه عاش بعد ذلك في شهرة انعكست بأثر رجعي على كل أعماله السابقة والتي بلغت العشرات، فهو أحد أكثر الروائيين العرب غزارة في الإنتاج الكتابي عموما.
وعلى الرغم مما حققته له الكتابة من فرح، جعل منه كاتب الفرح والكفاح، كما كان يقول، إلا أنها لم تكن على صعيد آخر سوى "أقصر طريق إلى التعاسة الكاملة"، وهو يفسّر ما قد يتوهّمه بعض القراء تناقضا بأن "الحياة أعطتني، وبسخاء، يقال إنني أوسع الكتّاب العرب انتشاراً، مع نجيب محفوظ بعد نوبل، ومع نزار قباني وغزلياته التي أعطته أن يكون عمر بن أبي ربيعة القرن العشرين. يطالبونني، في الوقت الحاضر، بمحاولاتي الأدبية الأولى، التي تنفع الباحثين والنقاد والدارسين، لكنها، بالنسبة إليّ، ورقة خريف أسقطت مصابيح زرقاً".
على أن متابعين كثيرين للمشهد الروائي العربي عموما، ولتاريخ حنا مينة مع الكتابة خصوصا، يعتبرون مؤلف "المستنقع" قد وقع هو نفسه كورقة خريف في مستنقع السلطة البعثية في بلاده التي دلّلته كثيرا، على الرغم من شيوعيته المعلنة، والتي تبدّت بأجلى صورها في رواياته الكثيرة.
لم يكن مينة من أولئك النفر من الشيوعيين الذين يعشقون ركوب الموج في مواجهة النظام السياسي الطاغية، لكنه بخبرته البحرية الواسعة صارع الأمواج كلها، وانتهى به الأمر إلى أن يبقى على الساحل، مطمئنا لنهايته التي لا يريد أن يعلنها أحد.. ربما لأنه موقنٌ، في أعماقه، بأنه قد انتهى فعلاً منذ زمن بعيد.