السيسي يستدعي سبع الليل

07 مارس 2018
+ الخط -
جاء قرار النائب العام المصري بتتبع ما ينشر بوسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي، متأخرا، فالمتابعة والتعقب والعقاب جارية منذ فترة، والقبض على إعلاميين وسياسيين وقادة رأي بسبب آرائهم أقدم من قرار تتبع ما ينشرون، أو ما سماها البيان "أكاذيب تستهدف أمن وسلامة الوطن" الصادرة من "قوى الشر".
بدأت حملة الحظر والتضييق، مبكرا، أولا بالهجوم على وسائل إعلامية، ثم حجب ما يزيد عن 420 موقعا إلكترونيا، تضم صحفا ومراكز أبحاث ودراسات ومواقع إخبارية ومنظمات حقوقية، وإن كان النظام يبرّر حجب تلك المواقع بمواجهة قوى الإرهاب والإخوان المسلمين، فإن أغلب المواقع التي حجبت ليست تابعة لتيار الإسلام السياسي. لكن يبدو أن الخطاب الذي بدا حول "قوى الشر"، وقصد به وسائل الإعلام القريبة من "الإخوان المسلمين"، توسع الآن، ليضم حتى وسائل التواصل الاجتماعي، والتي باتت تحديا أمام السلطة، لا تستطيع حجبها أو التحكم في منتجها الإخباري، كما أصبحت تلعب، في ظل التحكم في وسائل الإعلام التقليدية، دورا في تشكل الرأي العام، والتعبير عنه، بما وضعها في موقعٍ مؤثر يزعج السلطة.
ومع زيادة مستخدمي الإنترنت عموما، ووسائل التواصل الاجتماعي خصوصا، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي توفر مساحاتٍ للنقاش والتفاعل، وتمثل متنفسا للتعبير، في ظل إغلاق مجالات النقاش الحقيقية، كما تستشعر دوائر السلطة أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تفند الأكاذيب، وتتصدى لها، وتواجه دعاية النظام بدعاية مضادة، وهو ما يزعجها.
بدأت حملة الحظر لمواقع إلكترونية في مصر بموقع "العربي الجديد" في أغسطس/ آب 2014، بعد تحذير صدر من مؤسسة الرئاسة في أثناء لقاء مع رؤساء تحرير الصحف 
المصرية، وكانت تلك هي المرة الأولى التي تشهد مصر مثل هذا السلوك. وبحديث مماثل لمؤسسة الرئاسة أخيرا عن خطورة وسائل الإعلام التي تستهدف مؤسسات الدولة، ستصبح كل وسائل الإعلام في مرمي التهديد بالحجب والرقابة والمساءلة، ولا يُستثنى من ذلك الإعلاميون التابعون للسلطة، والمشهود لهم بولائهم للنظام، ولعل في واقعة التحقيق مع الإعلامي، خيري رمضان، بشأن كلامه عن أوضاع ضباط الشرطة مثالا واضحا على هذا التوجه.
إذن، ليس التهديد الذي غلفه النائب العام بأطر قانونية موجها وحسب لوسائل إعلامية مناوئة للنظام، وإنما بات كل من يكتب، حتى على صفحته في "فيسبوك" مهدَّدا، وربما تتم محاسبته، وفق بيان النائب العام. وربما بحكم تطوع عدد غير قليل من أعضاء مجلس النواب بتقديم مقترحات ومشاريع قوانين تجرّم الآراء التي تنتقد أداء مؤسسات الدولة، يكون للتتبع والاتهام سند قانوني جديد، يستخدم لأحكام السيطرة وضبط أفراد المجتمع.
ليست موجة تضيق الخناق على حرية التعبير منفصلةً عن حملة التخويف التي تضمنت حبس صحافيين وقيادات سياسية وطلابية ونقابية أخيرا، وكلاهما إعلان واضح بأنه لا تسامح مع أي رأي مخالف مما تبقى من قوى ثورة يناير، فضلا عن أن انضمام المواطنين العاديين لساحة النقاش السياسي غير مسموح، ولو حتى افتراضيا. إذن، ليس الموضوع، وكما كان يتم ترويجه، الحفاظ على "أمن وسلامة الوطن من بث ونشر الأكاذيب"، أو محاصرة بؤر الإرهاب، بل هو محاولة لسد كل إمكانات التعبير في المجال العام الافتراضي، بعدما تم إغلاق المجال العام، وتم التضييق على أنشطة مختلف التيارات السياسية والنقابات والحركة الطلابية والشبابية، وتم تجريم التظاهر والإضراب والاعتصام.
ترجع الهجمة على حرية التعبير، والقبض على بعض القيادات السياسية، إلى إدراك مجموعات السلطة حقيقة أن الحراك السياسي المحدود أيام حسني مبارك أدى إلى تبلور حركة اجتماعية، نهضت مكوناتها وتوسعت وتشابكت حتى أسقطت النظام. وتكونت هذه الحركة من الحركات العمالية والشبابية التي نشطت مع القوى السياسية. وعلى الرغم من ضعف هذه القوى، إلا أنها استطاعت، مع تطور الحراك الشبابي وتوفر وسائل التعبير والاتصال الحديثة، هدم جدار استبداد نظام مبارك. لذا يرى النظام الآن ضرورة خنق كل إمكانية للحركة، وكل منصة للتعبير، حتى لا يتبلور حراكٌ يمكن أن يتطور مستقبلا.
ولعل الاهتمام المكثف بعملية الرقابة والتتبع لكل حدث صغير يؤكد أن نموذج الحراك الذي تشكل أيام مبارك لا يفارق المجموعات الحاكمة اليوم، فقد نشرت الصحف أخيرا أن مؤسسة الرئاسة غاضبة من ثلاثة أعمال فنية، هي ديوان شعر ومسرحية وفيلم تسجيلي تم القبض على مخرجته سلمى علاء، بينما اعتذرت دار النشر عن طباعة الديوان المغضوب عليه، وتم إيقاف عرض المسرحية المنفلتة. وفي هذا السياق المتشنج، ليس غريبا أيضا أن تصدر لجنة الدراما في المجلس الأعلى للثقافة بيانا تنتقد فيه ما أسمتها فوضى الأعمال الدرامية، وتطالب بتحديد موضوعات الأعمال الفنية حسب المصلحة الوطنية، وهو ما وصفه الفنان عادل إمام بأنه بيان فاشي، وكأن مصر تعيش أجواء ديمقراطية، وأن لجنة الدراما هي الاستثناء.
في ظل ما سبق، ليس مستغربا أن تستمر حملات القبض على السياسيين، وقد بدا النظام مناوشته مع قوى اليسار منذ فترة، وتم القبض أخيرا على قياداتٍ فوق سن الستين، لا لشيء سوى مواقفهم الواضحة من النظام، من بينهم جمال عبد الفتاح، والمحامي الناصري حسن 
حسين، ناهيك عن المقبوض عليهم من مجموعات شبابية وطلابية من حزب الكرامة ومصر القوية والاشتراكين الثوريين وغير المحزبين في الأسبوع الماضي، في مقدمتهم الصحافية مي سعيد، أحد الكوادر اليسارية المعارضة، والتي تم حبسها هي وزميل لها مصور أسبوعين بتهمة حيازة كاميرا، ومزاولة مهنة بدون ترخيص، والانتماء إلى جماعة تهدف إلى تعطيل الدستور، وتلقي أموال من الخارج. كل هذه التهم لفقت إليها، بعد القبض عليها، وهي تجري تحقيقا لموقع إلكتروني عربي عن ترام الإسكندرية. ولعل مي وغيرها من الشباب المقبوض عليهم، والذين حضروا لثورة يناير، وشاركوا فيها، وما زالوا مؤمنين بها، تتم معاقبتهم الآن، هم وأهاليهم ويمارس التضييق عليهم في عملهم وحريتهم، بهدف كسر الإرادة وتعميم ثقافة الخوف والانسحاب من المجال العام، والارتكان على الهم الذاتي.
تشكل التفاصيل الصغيرة للمشهد، والمتضمنة حملات القبض والتحقيق، والحظر وتوجيه اتهامات تتصف باللاعقلانية، والمبالغة، أدواتٍ ضرورية للسلطة، حيث تشكل بتنوعها أجزاء من صورة يراد رسمها، أن هناك مؤامرة لا تستهدف النظام الحاكم وحسب، بل تستهدف مؤسسات الدولة الوطنية. وتدور المؤامرة، وتنفذ في إطار مخطط يقوده أعداء الوطن.
يذكرنا ما يجري في مصر الآن من استبدد مكثف غير معقلن، يتجاور مع تزيف الوعي، بفيلم "البريء" الذي يقنع فيه مأمور السجن العقيد شركس (محمود عبد العزيز) المجند سبع الليل (أحمد زكي) بأن السجناء الذين يحرسهم لا يستحقون الحياة، فهم "أعداء الوطن". في المشهد الحالي، يريد "العقيد" أن يسمع الشعب كلامه، ويصدقه من دون نقاش، ويتخذ موقع سبع الليل. يريد شركس أن يقنع الجميع بأن كل من يقول رأيا هو من أعداء الوطن.
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".