مُؤتمَر القوى السودانية في القاهرة: صراع السياسة خلف خطوط القتال

16 يوليو 2024

السيسي يتوسّط المشاركين في مؤتمر القوى السودانية بالقاهرة (7/7/2024 الرئاسة المصرية)

+ الخط -

ضمن أدوار وساطة مصرية، بالتشاور مع قوى إقليمية ودولية، عُقِد في القاهرة يومي السادس والسابع من يوليو/ تمّوز 2024، مُؤتمَرٌ للقوى السودانية تحت شعار "معاً لوقف الحرب"، شارك فيه 18 حزباً، وممثّلون لهيئات من المجتمع المدني، وشخصيات عامّة، بينما جاءت أجندته في عناوين عريضة، محاولةً لبناء مرتكز للحوار على قضايا محلّ اتفاق، وتجاوز تفاصيل قد تُسبّب خلافات تعيق تحقيق هدف المُؤتمَر، بشأن مواقف تُفرمِل الدعم السياسي للحرب، وتنزع عن الصراع ما يريده الطرفان من مسوغات لاستدامتها، ورغم ما بدا من محاولات القاهرة إيجاد فرص لنجاح المُؤتمَر، كما الإعداد له قبلها بفترة، والتنسيق مع الأطراف لخلق حالة توافق، ظهرت تباينات بشأن نتائج المُؤتمَر، وفي الأحوال كلّها، تأثرت المواقف تبعاً لمعطياتٍ عدّة، من بينها عاملان أساسيَّان؛ الاصطفاف مع جبهتي الصراع على السلطة؛ قوات الدعم السريع والجيش، ومحاولة كلّ جبهة أن ينتصر المُؤتمَر لساحتها، وارتباط بعض القوى بأطراف خارجية، بعضها يتّخذ موقفاً تنافسياً مع القاهرة، ويريد عزلها عن ملفّ الأزمة السودانية، بما يُحقّق مصالحها ضمن مشهد الحرب التي تجاوزت عامها الأول، بينما هناك فريق ثالث لا يرى أيَّ جدوى في المشاركة. في اعتذاره عن الحضور، قال الحزب الشيوعي: "إنّ المُؤتمَر ليس حلّاً للصراع الحالي، بل أعتبره يصبّ في صالح قوى الهبوط الناعم"، في إشارة إلى أنّ القوى الإصلاحية تريد الوصول إلى السلطة منذ الانتفاضة من دون اعتبارٍ لأهداف الثورة.

التباينات بشأن نتائج مُؤتمَر القوى السودانية في القاهرة تأثّرت بالاصطفاف مع جبهتي الصراع وبارتباط بعض القوى بأطراف خارجية 

ورغم مساحة التباين في التقييم يمكن القول إنّ هناك نتائج إيجابية تحقّقت من المُؤتمَر، ونجاحاً جزئياً في ضوء ما أُعلِن من أهداف قبيل انعقاده، كما جمع القوى السياسية للنقاش والتوصّل إلى توافقٍ بشأن سبل وقف الحرب ومعالجة تداعياتها، وإعادة رسم المشهد السياسي، وربّما تنجح لجنة شُكِّلَت للمتابعة في تنسيق المواقف بشأنها، ويمكن تحليل دلالات المُؤتمَر وأهم نتائجه. فمن حيث حجم المشاركة والاستجابة أولاً، استطاع المُؤتمَر جذب أطراف وقوى سياسية مختلفة (ما يزيد عن 40 جهة) للحوار، بما في ذلك كتلتان رئيسيّتان، "تقدم" التي يترأسها رئيس وزراء السودان السابق، عبد الله حمدوك، وتضمّ أغلب مكوّنات قوى الحرّية والتغيير (اللجنة المركزية)، كما شارك رموز من كتلة الديمقراطية، ومنهم قادة حركات مُسلّحة (مالك عقار ومني أركو مناوي وجبريل إبراهيم)، ضمن جبهة ساندت قيادة الجيش، ومهّدت للانقلاب على الحكومة المدنية (25 أكتوبر/تشرين الأول 2021) ومازالت تصطف مع البرهان ضدّ غريمه محمد حمدان دقلو (حميدتى)، وبناء عليه، تحفّظوا على البيان الختامي للمُؤتمَر، بدعوى أنّه لم يحمل إدانة صريحة لانتهاكات قوّات الدعم السريع، بينما كشفت مصادر أنّ البيان صدر بتوافق، وصاغته لجنة (11 عضوا) شارك فيها ممثّلون عن المشاركين بينهم قوى "تقدم"، والكتلة الديمقراطية، واتُّفِقَ على إدانة الانتهاكات إجمالاً فعلاً، من دون ذكر طرف من دون آخر، لكن فوجئ الحضور من تنصّل أطراف من الكتلة الديمقراطية، وشعورها أنّ نتائج المُؤتمَر تُقوّي صفّ "تقدم"، التي تُمثّل طيفاً من قوى الثورة، ما يدل على بقاء مشهد الصراع السياسي جزئياً، ما بين صفوف للثورة وأخرى للثورة المُضادّة، التي أعاقات المرحلة الانتقالية، وأنّ هذه القوى على استعداد للتفاوض والقبول بشركاء الدم من قوات الدعم السريع، لكن ليسوا بذات درجة قبول القوى المدنية لهم، ومن بينها قيادة تحالف "تقدّم".
ثانياً، جرى التوافق بين أغلب المشاركين على رفض الحرب، بما يُعبّر عن قناعة بأنّ المواجهة العسكرية لن تَفرِضَ وضعاً سياسياً يحظى بالشرعية داخل السودان أو خارجه، وجاء "أوقفوا الحرب" شعاراً ومطلباً، وبناء عليه أعيد طرح خيار التوافق على فترة انتقالية على أسس الحرّية والسلام والعدالة، كما كان الحال قبل الانقلاب، وهذا الموقف، يرفع الغطاء عن أيّ اتّجاه يريد استدامة الحرب، مستنداً إلى شعارات الثورة ومواجهة فلول نظام البشير من الإسلاميين، الذي تكرّره دعاية زائفة لقوات الدعم السريع (أبرزهم مستشار حميدتي، يوسف عزّت، الذى أقيل أخيراً) أداةً لجذب قوى مدنية وقطاعات من جمهور الثورة، كما خيار رفض الحرب، يضعف موقف الجيش الُمتصلّب الذى يرفض وقف القتال عبر التفاوض، ويُكرّره عبد الفتّاح البرهان، الذى قال الجمعة (12 يوليو 2024)، ردّاً على ما نُشر حول مفاوضات غير مباشرة في "جنيف" ترعاها الأمم المتّحدة بين طرفَي القتال، إنه ماضٍ في الحرب حتّى هزيمة المُتمرّدين، بينما قالت الأمم المتّحدة إنّ الطرفَين سيتفاوضان حول وصول المساعدات، لكن ليس وجهاً لوجه.
ثالثا، يُعزّز المُؤتمَر الحوار والتعاون بين السودانيين والقوى والأطراف الدولية، وطالب المشاركون خلاله بتكامل الجهود وتنسيق عمليات الوساطة، وتنفيذ إعلان جدّة (11 مايو/ أيّار 2023)، الذى يَقضى بإبعاد قوات طرفَي الصراع المُسلّح عن المناطق السكنية والمؤسّسات المدنية والخدمية، كما أعلنت القوى السياسية توافقاً على رفض التدخّلات التي تؤجّج الصراع، في إشارة إلى أطراف تمدّ الجهتين المتقاتلتين بالسلاح، وبالمقاتلين الأجانب أيضاً، ما يدفع لمراجعة حساباتها، بشأن وجود حلفاء يخدمون مصالحها ونفوذها عبر الحرب، وهنا تحضر اتهامات سودانية رسمية للإمارات في مجلس الأمن، وتقارير عدّة بشأن تدخّلات أخرى لدول الجوار، تدعم الحرب أيضاً.

يشكّك اجتماع القوى السودانية في القاهرة في فاعلية الاتحاد الأفريقي ومواقفه المتقلّبة المُرتبطة ببعض الأطراف الأفريقية الفاعلة في هيئاته

رابعاً، يمثل المُؤتمَر إحدى أدوات حشد الجهد الدولي من أجل إرسال وتوفير وتسهيل عبور المساعدات الإنسانية الداخل السوداني أو مناطق النزوح في دول الجوار. ومستقبلاً، تحفيز الجهات الدولية في تقديم الدعم والتمويل، بما فيها تنفيذ مُقرّرات مُؤتمَري باريس وجنيف، خاصّة مع تصاعد أزمة تمويل الحكومة السودانية. ويمكن أن نضيف خامساً، أنّ المُؤتمَر يعزّز، ضمن أدوار الوساطة، دور القاهرة دبلوماسياً، مع أطراف دولية. مثال لذلك اتصال وزير خارجية واشنطن مع نظيره المصري، ومناقشة نتائج المُؤتمَر. أمّأ أمنياً فتساعد جهود الوصول إلى تسوية لجوانب الأزمة سياسياً وإنسانياً، للحفاظ على السودان دولةً، وحفظ وحدة أراضيه، ما يساعد في الحفاظ على أمن البحر الأحمر والحدود الجنوبية والغربية لمصر، وهي قضية تتشاركها القاهرة مع أطراف أخرى.
وإجمالاً، يُمثّل المُؤتمَر، خطوةً أولى وتمهيديةً للحوار بين القوى السياسية، وهي مُهمّة كانت غائبة في مبادرات سابقة ركّزت على طرفَي الصراع العسكري، وتجاهلت المستوي السياسي، رغم أنّ جذور الأزمة متشابكة، والأصل فيها عجز مكونات البناء السياسي في استكمال المرحلة الانتقالية، ويساهم أيُّ حيّز للحوار في إعادة طرح الأزمة في أصولها، وعودة السياسة التي غابت مع الحرب، التي أراد بها الطرفان فرض وضعٍ سياسي بالقتال، فزادت الأزمة بانهيار شاملٍ يُهدّد السودان دولةً، وشعبها ما بين الجوع والنزوح والقتل، ويؤكّد حقيقة أنّ أيا من طرفي الصراع لن يُحقّق سيطرته على السلطة عبر القتال.
وضمن دلائل المُؤتمَر أنّ هناك تغيّراً نسبىاً في موقف مصر من القوى السياسية السودانية، وتتعامل بمرونة، ما جعل قيادة الجيش، التي كانت تحظى بتأييد مصري منذ الثورة، تتخوف رغم ترحيب خارجية السودان بالدعوة منذ إعلانها نهاية مايو 2024، وزادت مخاوفها، من أن يمنح اللقاء فرصةً لتقوية صفّ قوى سياسية (كما تحالف "تقدّم") تناوئ الجيش منذ انقلاب البرهان وحليفه حميدتي ضدّ حكومة عبد الله حمدوك، قبل أن يتصارع الطرفان من أجل الانفراد بالسلطة. وعملياً تُرجم هذا التحفّظ في إعلان ثلاثة من قادة الحركات المُسلّحة المُتحالفة مع الجيش رفضها البيان الختامي.
تواصل القاهرة خطوات سابقة في الحوار مع القوى السياسية، منها تيسير الحوار عبر ورش واجتماعات في القاهرة وخارجها، كما لقاء المنامة، بما يسمح بفُرَصِ تقارب. في المقابل، أصبح البرهان أكثر حذراً، واعتبرت كتل من مُؤيّديه، أنّ مُؤتمَر أديس أبابا (10 - 15 يوليو/ تموز) التالي على مُؤتمَر القاهرة، هو الأقرب لها. وفعلياً شاركت فيه بينما غاب تكتّل "تقدّم"، والذى أعتبر أنّ "الاجتماع مُسيطَرعليه بواسطة عناصر النظام السابق وواجهاته وقوى الحرب". وعملياً، هذا الاجتماع يُشكّك في فاعلية الاتحاد الأفريقي ومواقفه شديدة التقلّب، المُرتبطة ببعض الأطراف الأفريقية الفاعلة في هيئاته.
وضمن تقلّبات في المشهد، ترتبط بخريطة الصراع داخلياً وخارجياً، سارع رئيس وزراء إثيوبيا أبي أحمد للقاء البرهان لنقاش قضايا أمنية منها الحدود، ودور أديس أبابا، التي تستضيف فاعليات يرعاها الاتحاد الأفريقي بشأن أزمة السودان. وقال، في رسالة واضحة، إنّ في الأوقات الصعبة يتكشّف من هم أصدقاء السودان الحقيقيون. هذا، رغم أنّ أبي أحمد كان مُتّهماً بموالاة قوات الدعم السريع، وسعى في مُؤتمَر "إيغاد" إلى فرض حظر طيران وإدخال قوات إلى السودان. لكنّ هذا الطرح رُفِض بشدّة من قوى وطنية ومن الجيش، كما ساهم مُؤتمَر "دول الجوار"، الذى عقد في القاهرة، في رفض التدخّل العسكري المباشر في السودان، ما عُدّ ساعتها انحيازاً إلى الجيش، وتصدّيا مصريا لبعض دول الجوار المساندة لقوات الدعم السريع.

 لم يُفوّت السيسي فرصةَ الإشارة، خلال لقائه قوى سياسية سودانية، إلى موقفه من الثورات بوصفها تُشكّل خطراً وجودياً على الدول

ومن بين الدلائل على تقدّم دور الوساطة المصرية، أنّ المُؤتمَر جرى الإعداد والدعوة إليه بمشاركة أطراف إقليمية ودولية، بينها هيئات الأمم المتّحدة والاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية، بجانب وفود من دول الجوار، ما يضع هذه الهيئات أمام مسؤوليتها ويدلّ في الوقت ذاته على إدراك القاهرة ضرورة التعاون مع الأطراف كافّة لمعالجة أزمة السودان، التي أصبحت ساحةَ للتفاعلات الدولية، ما يفرض التوصّل إلى حدّ أدني من التنسيق ومن الاتفاق على القضايا الرئيسية. وحاولت القاهرة إنجاح المُؤتمَر، حتّى وإن تأجّل موعده، لضمان مشاركة واسعة. ومع وجود تشكيل وزاري جديد، تريد السلطة في مصر إبراز فاعليته. وأخيراً حرص الرئيس عبد الفتاح السيسي على تسجيل مواقفه بلقاء القوى السياسية السودانية، وأيضاً، ممثّلين لدول الإمارات وألمانيا وقطر، وإبداء حسن نوايا القاهرة، وتأكيد رغبتها في وقف الحرب، وعودة الاستقرار، لكنّه لم يُفوّت فرصةَ أن يشير، بشكل غير مباشر، إلى موقفه من الثورات، بوصفها تُهدّد الاستقرار ووحدة الدول، وتُشكّل خطراً وجودياً عليها.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".