05 نوفمبر 2024
سورية في ذكرى الوحدة
اكتملت ستون عامًا على تلك المحاولة العجولة لتشكيل وحدة بين بلدين عربيين، سورية ومصر. كانت الوحدة حاجة عاطفية بالدرجة الأولى لشعبي البلدين، بعد التحرّر من الاحتلالات، ونيل الاستقلال، والتطلع إلى نهضة توصل البلاد إلى أولى الخطوات في السير في ركب الحضارة. فما الذي حدث، وجعل الولادة تنتهي بوليدٍ معاق غير قابل للحياة، فمات ولم يتجاوز سن الفطام بعد؟
يبدو أن إحدى المشكلات أو الأخطاء الجسيمة التي تقع فيها شعوب منطقتنا هي عدم مراجعة تجارب التاريخ، القديمة أو الحديثة، وإلّا فلماذا تتعثر المشاريع، وتُجهض الأحلام والآمال والطموحات؟ روح الهزيمة المتمكنة من هذه الشعوب، وتوقها إلى التقاط انتصار ما، حتى لو كان وهمًا أو انتصارًا زائفًا أو مبالغًا فيه، جعل من المنجزات التي حققها فردٌ عند تبوئه السلطة في مصر زعيمًا أسطوريًا، لديه من الكاريزما ما يكفي ليدغدغ الأرواح المعطوبة والنفوس المهزومة، ويجعلها ترنو إليه وتُلبسه، ليس لباس الزعامة الفريدة فقط، بل النبوّة التي ستمسك المصير، وتقود إلى جنان الحياة، وربما جنان الآخرة أيضًا. وكانت اللحظة التاريخية مناسبةً لنمو أحلامٍ من هذا النوع، لحظة الإحساس بالهوية والتحرّر من التبعية والاستعمار، فلقد حرّر قناة السويس، وخاض حرب العدوان الثلاثي، وتحدّى أعتى القوى في تلك الفترة، وتحدى
إسرائيل المدعومة من فرنسا وبريطانيا، ومن بعدهما أميركا، الدول التي كانت كابوسًا على صدور أبناء المنطقة، ولقد ألهب صدور الجماهير العربية، وليس في الجمهورية المتحدة الناشئة بخطاب الوحدة الذي خطب فيه قائلا: أيها المواطنون... عهد السيطرة الأجنبية قد انتهى إلى غير رجعة. عهد الاستعمار وعهد التحكم وعهد الدخلاء قد انتهى، بفضل تصميم الشعب العربي في الجمهورية العربية المتحدة... كل واحد يشعر بأن هذه الجمهورية تمثل إرادة كل فرد فيكم، وليس إرادة المستعمر، ولا الدخيل، ولا إرادة الذين يريدون أن يضعونا تحت النفوذ. اليوم نحن الذين نقرّر ليس هناك دخيل يقرّر. النهارده مشيئتنا نحن هي التي لها الإرادة ولها القوة، وهي التي قررت قيام الجمهورية العربية المتحدة.
لم يثمر الحلم، بل أجهض باكرًا، وأنهيت الوحدة بانقلاب عسكري في دمشق يوم 28 سبتمبر/ أيلول 1961، وأعلنت سورية انتهاء الوحدة، وعاد الإقليم الشمالي منفصلاً ليكون "الجمهورية العربية السورية"، بينما احتفظت مصر باسم "الجمهورية العربية المتحدة" حتى عام 1970، عندما سميت باسمها الحالي "جمهورية مصر العربية".
الجمهورية العربية المتحدة. تسمية طرحت شعار العروبة، ولم تنجح الوحدة. مثلما الجمهورية العربية السورية وجمهورية مصر العربية. هذه التسميات الشمولية المصادرة لفظيًا مثلما هي فعليًا للفضاء العام واحتكاره، من دون الالتفات إلى الذين يشاركون وشاركوا في التاريخ والجغرافيا، ألا تحمل أجسامًا ضدية، بلغة الطب، تعاند أي مشروع وحدوي؟ يمكن فهم النوازع القومية التي كانت من الحوامل الرئيسة لمقاومة الاحتلال، وإعادة الحقوق والهوية المسلوبة، لكن التطلع إلى دولةٍ حديثةٍ وقويةٍ، وإنجاز مشروع نهضة وحدوي، كان يلزمهما وقت وزمن كفيلان بإنضاج الوعي الجماهيري لدى تلك الجموع الغفيرة التي مشت خلف القائد الملهم الزعيم بعاطفة ملتهبة جامحة.
لكي ننصف أي تجربة تاريخية، لا بدّ من دراستها وفهمها في لحظتها التاريخية ونقدها نقدًا بنّاء منتجًا. لقد نالت تجربة الوحدة تلك ما نالته من الدراسة والتمحيص ومحاولات إضاءة الزوايا المخفية والمعلنة عن أسباب إجهاضها، مثل أي مشروع وحدوي أو نهضوي عربي، لكن النتيجة أن التاريخ الذي يتشكل والواقع الحالي يظهران هول الانحدار والهاوية التي انزلقت إليها منطقتنا، وهول الكارثة البشرية التي نجمت عن تردّي الوعي العام ونكوص الأحلام والطموحات نحو أوطانٍ بصيغ أخرى، أوطان متناحرة تقوم على العصبيات القومية والدينية، ونكوص الإرادات التي دفعت الشعوب أثمان تحرّرها واستقلالها، لتقع تحت وصايات أخرى، وتُسلب استقلالها وحرية قرارها وإرادة صناعة مصيرها.
لا يمكن الرهان على المستقبل، والإمساك بالمصير، من دون إرادة الشعوب، وهذه الإرادة يلزمها وعي بتاريخها وتجاربها وواقعها الحالي، بما يحمل من مشكلات وقضايا تحتاج إلى الفهم وطرح الحلول المفيدة والممكنة. لا بد من السؤال عن طاقة تلك الجماهير التي زحفت مهللةً للقائد الزعيم، تلك الطاقة الجبارة التي كان يمكنها أن تصنع المصير، فيما لو ترافقت
بوعي اجتماعي، يمكّنها من فهم واقعها وفهم مشكلاتها، وتحديد احتياجاتها، ورسم أهداف واعدة سبل تحقيقها واضحة. لم تكن تكفي الحاجة العاطفية، فشعوب المنطقة كانت، ولا زالت بل أكثر، تنهض من محنةٍ كبرى سببها الاستبداد والاستعمار قرونا، وليس عقودا فقط، وكانت كالطفل القاصر، يبحث عن أب أو زعيم أو بطل يتعلق بأثوابه، ويسلمه مصيره. وما كان الحزن الجماعي الذي استباح صفوف الجماهير العربية في الشرق والغرب إلّا دليلاً يخطف الأرواح إلى أقاصي البكاء، دليلاً على اليتم الجماعي الذي شعرت تلك الشعوب بانقضاضه عليها، وبأنها تاهت وضاع منها الطريق. ذلك الزعيم الذي سكن النفوس كتميمة ضد الشرور لم تمنحه الجماهير حقّ أن يتنحّى، مع أن الهزيمة كانت طازجةً في يونيو/ حزيران 1967، تدفقوا في نوبة هيستيرية إلى الشوارع، تائهين يبحثون في شخصه عن النجاة مرة أخرى، النجاة ممّ وممّن؟ النجاة من الخيبات والجروح والهزائم والإحساس بالضياع. نعم، قد أنجزت تلك الشعوب تحرّرها من الاحتلال، لكنها شعرت بالإرباك بعدها، فما هي الخطوة الثانية؟ كانت مثل فراشات النار تطن وتحترق بعيدًا عن خيال التفكير بحلول مستقبلية، وكان الزعيم هو الملهم المنقذ الذي راحت تطن حول ناره، وتسقط بنشوة غريبة.
بعد ستين عامًا من فشل مدوٍّ لحلم تكسّر على شاطئ واقعٍ، صارت صخوره أكبر وأقسى وأخطر، من المفيد الالتفات إلى ضمير الشعب ووعيه. من المفيد، بل الضروري، تأهيله ليكون قادرًا على التفكير بمستقبله، فلا وحدة ولا مستقبل يمنح الحياة بالتمني والرغبات العاطفية والأحلام. بعد ستين عامًا، صارت الدويلات التي أنشئت قبل مائة عام بنوايا استعمارية، وتوزيع حصص ومصالح وزرع كيان غاصب في قلب منطقتنا، بحاجةٍ إلى مشاريع وحدة كل بمفردها، وصارت الشعوب تتنازع فيما بينها. وصار صدى خطاب الزعيم جمال عبد الناصر يحمل المتناقضين، التراجيديا والكوميديا، بل إنها السخرية السوداء المريرة: "اليوم نحن الذين نقرّر، ليس هناك دخيل يقرّر. النهارده مشيئتنا نحن هي التي لها الإرادة ولها القوة". والدليل الدامغ سورية، الإقليم الشمالي السابق في الجمهورية العربية المتحدة.. أين هي الإرادة الحرة؟ وأين هو القرار المستقل؟ وأين هي السيادة ولم يبقَ صاحب نفوذ في العالم إلّا وتدخّل، ليزيد في واقعها المرير مرارة؟ والأخطر من هذا كله أن الرغبة العاطفية، بل الحاجة العاطفية، صارت تجنح نحو التقسيم والانفصال. هذا ما حدث بين الأمس واليوم.
يبدو أن إحدى المشكلات أو الأخطاء الجسيمة التي تقع فيها شعوب منطقتنا هي عدم مراجعة تجارب التاريخ، القديمة أو الحديثة، وإلّا فلماذا تتعثر المشاريع، وتُجهض الأحلام والآمال والطموحات؟ روح الهزيمة المتمكنة من هذه الشعوب، وتوقها إلى التقاط انتصار ما، حتى لو كان وهمًا أو انتصارًا زائفًا أو مبالغًا فيه، جعل من المنجزات التي حققها فردٌ عند تبوئه السلطة في مصر زعيمًا أسطوريًا، لديه من الكاريزما ما يكفي ليدغدغ الأرواح المعطوبة والنفوس المهزومة، ويجعلها ترنو إليه وتُلبسه، ليس لباس الزعامة الفريدة فقط، بل النبوّة التي ستمسك المصير، وتقود إلى جنان الحياة، وربما جنان الآخرة أيضًا. وكانت اللحظة التاريخية مناسبةً لنمو أحلامٍ من هذا النوع، لحظة الإحساس بالهوية والتحرّر من التبعية والاستعمار، فلقد حرّر قناة السويس، وخاض حرب العدوان الثلاثي، وتحدّى أعتى القوى في تلك الفترة، وتحدى
لم يثمر الحلم، بل أجهض باكرًا، وأنهيت الوحدة بانقلاب عسكري في دمشق يوم 28 سبتمبر/ أيلول 1961، وأعلنت سورية انتهاء الوحدة، وعاد الإقليم الشمالي منفصلاً ليكون "الجمهورية العربية السورية"، بينما احتفظت مصر باسم "الجمهورية العربية المتحدة" حتى عام 1970، عندما سميت باسمها الحالي "جمهورية مصر العربية".
الجمهورية العربية المتحدة. تسمية طرحت شعار العروبة، ولم تنجح الوحدة. مثلما الجمهورية العربية السورية وجمهورية مصر العربية. هذه التسميات الشمولية المصادرة لفظيًا مثلما هي فعليًا للفضاء العام واحتكاره، من دون الالتفات إلى الذين يشاركون وشاركوا في التاريخ والجغرافيا، ألا تحمل أجسامًا ضدية، بلغة الطب، تعاند أي مشروع وحدوي؟ يمكن فهم النوازع القومية التي كانت من الحوامل الرئيسة لمقاومة الاحتلال، وإعادة الحقوق والهوية المسلوبة، لكن التطلع إلى دولةٍ حديثةٍ وقويةٍ، وإنجاز مشروع نهضة وحدوي، كان يلزمهما وقت وزمن كفيلان بإنضاج الوعي الجماهيري لدى تلك الجموع الغفيرة التي مشت خلف القائد الملهم الزعيم بعاطفة ملتهبة جامحة.
لكي ننصف أي تجربة تاريخية، لا بدّ من دراستها وفهمها في لحظتها التاريخية ونقدها نقدًا بنّاء منتجًا. لقد نالت تجربة الوحدة تلك ما نالته من الدراسة والتمحيص ومحاولات إضاءة الزوايا المخفية والمعلنة عن أسباب إجهاضها، مثل أي مشروع وحدوي أو نهضوي عربي، لكن النتيجة أن التاريخ الذي يتشكل والواقع الحالي يظهران هول الانحدار والهاوية التي انزلقت إليها منطقتنا، وهول الكارثة البشرية التي نجمت عن تردّي الوعي العام ونكوص الأحلام والطموحات نحو أوطانٍ بصيغ أخرى، أوطان متناحرة تقوم على العصبيات القومية والدينية، ونكوص الإرادات التي دفعت الشعوب أثمان تحرّرها واستقلالها، لتقع تحت وصايات أخرى، وتُسلب استقلالها وحرية قرارها وإرادة صناعة مصيرها.
لا يمكن الرهان على المستقبل، والإمساك بالمصير، من دون إرادة الشعوب، وهذه الإرادة يلزمها وعي بتاريخها وتجاربها وواقعها الحالي، بما يحمل من مشكلات وقضايا تحتاج إلى الفهم وطرح الحلول المفيدة والممكنة. لا بد من السؤال عن طاقة تلك الجماهير التي زحفت مهللةً للقائد الزعيم، تلك الطاقة الجبارة التي كان يمكنها أن تصنع المصير، فيما لو ترافقت
بعد ستين عامًا من فشل مدوٍّ لحلم تكسّر على شاطئ واقعٍ، صارت صخوره أكبر وأقسى وأخطر، من المفيد الالتفات إلى ضمير الشعب ووعيه. من المفيد، بل الضروري، تأهيله ليكون قادرًا على التفكير بمستقبله، فلا وحدة ولا مستقبل يمنح الحياة بالتمني والرغبات العاطفية والأحلام. بعد ستين عامًا، صارت الدويلات التي أنشئت قبل مائة عام بنوايا استعمارية، وتوزيع حصص ومصالح وزرع كيان غاصب في قلب منطقتنا، بحاجةٍ إلى مشاريع وحدة كل بمفردها، وصارت الشعوب تتنازع فيما بينها. وصار صدى خطاب الزعيم جمال عبد الناصر يحمل المتناقضين، التراجيديا والكوميديا، بل إنها السخرية السوداء المريرة: "اليوم نحن الذين نقرّر، ليس هناك دخيل يقرّر. النهارده مشيئتنا نحن هي التي لها الإرادة ولها القوة". والدليل الدامغ سورية، الإقليم الشمالي السابق في الجمهورية العربية المتحدة.. أين هي الإرادة الحرة؟ وأين هو القرار المستقل؟ وأين هي السيادة ولم يبقَ صاحب نفوذ في العالم إلّا وتدخّل، ليزيد في واقعها المرير مرارة؟ والأخطر من هذا كله أن الرغبة العاطفية، بل الحاجة العاطفية، صارت تجنح نحو التقسيم والانفصال. هذا ما حدث بين الأمس واليوم.
دلالات
مقالات أخرى
27 أكتوبر 2024
19 أكتوبر 2024
05 أكتوبر 2024