إيران تشتري عداء العرب بالمجان

28 فبراير 2018
+ الخط -
سواء كانت تصريحات بعض المسؤولين الإيرانيين المتواترة ضد حاضر العرب ومستقبلهم موجهةً للاستهلاك المحلي، وموظفةً في خدمة استمرار الهياج القومي الديني المركّب إلى ما شاء الله، أم كانت تلك المواقف المتغطرسة تصدر برسم العالم العربي، وتخاطب الجوار بروح الاستعلاء والكراهية، تستفزّه وتستهين بقدرته على رد التحدي بمثله، تظل هذه الأقوال المنفلتة من عقالها أقرب ما تكون إلى عملية شراء غير مدفوعة الثمن لعداء ملايين العرب، بمن فيهم الذين يجادلون، عن حق، بضرورة عدم استعداء إيران، وتجنب خلق عدو جديد لهذه الأمة المنكوبة بعدو  إسرائيلي لا يكف عن ترجمة عدائه للجميع من دون هوادة.
جديد هذه التصريحات الطائشة ما ورد على لسان مسؤول إيراني، اسمه رحيم بور أزغدي، يتمتع بعضوية "المجلس الأعلى للثورة الثقافية"، قال فيها إن ست دول، كانت تقع تحت سيطرة الولايات المتحدة، باتت الآن تحت سيطرة المرشد الأعلى علي خامنئي، وهو ما حمل الرجل غير المفوّه على الدعوة إلى إعلان الإمبراطورية الفارسية في المنطقة، التي سبق لمسؤول ايراني آخر أن حدد بغداد، في وقت متأخر، عاصمة لهذه الامبراطورية ذات الأمجاد الغابرة، على خلفية استشراء نفوذ الجمهورية الإسلامية في بلاد الرافدين، وهيمنتها على مفاصل الدولة المفككة، إثر الاجتياح الأميركي للعراق عام 2003.
في غمرة النشوة الإيرانية باستيلاء جماعة الحوثي على العاصمة اليمنية، قبل نحو ثلاث
 سنوات، تبجح أحد كبار المسؤولين في طهران، قائلاً إن بلاده أصبحت تسيطر على أربع عواصم عربية (بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء)، وإن الحبل على الجرّار، وإن الإيرانيين هم الآن سادة البر والبحر، في إشارة واضحة إلى النوايا التوسعية لنظام الولي الفقيه، الذي قرع، بزعمه هذا، جرس الإنذار في عواصم المشرق العربي، وأثار الهواجس والمخاوف لدى الكافة، من ازدياد تغوّل آيات الله على هذه المنطقة المستباحة من الماء إلى الماء، لا سيما إذا ما تواصل ترهّل النظام العربي، وتعاظمت سطوة المليشيات التي تديرها طهران.
لم يقل لنا عضو المجلس الأعلى للثورة الثقافية في إيران ما اسم العاصمتين الجديدتين المضافتين للعواصم الأربع المعلن عنها من قبل، غير أن شروحات منقولة عن المراجع نفسها، المسكونة بحلم إعادة بعث المشروع الامبراطوري من العدم، أوضحت أنهما كابول في أفغانستان، وغزة في القطاع المحاصر منذ نحو عشر سنوات، فيما يبدو أنه تعويلٌ على التحالف الملتبس مع حركة طالبان من جهة، والرهان المتجدّد على حركة حماس من جهة أخرى، أي أن إيران لا تزال تشتري العداء المجاني، من دون تحسّبٍ لوقع هذه الأقوال على مسامع المخاطَبين بها، وتشتري معها السمك في البحر، وتعرض بيعه في الواقع الافتراضي قبل الأوان.
ليس لدينا علمٌ بمدى جدية الدعم الذي تقدمه طهران للحركة التي تقاتل ضد الأميركيين وأتباعهم في أفغانستان، ولا برد فعل قادة "طالبان" على هذه الادعاءات الفارغة من كل مضمون حقيقي، غير أن من الممكن تلمس مظاهر الحرج لدى "حماس" التي التزمت الصمت التام، وتجاهلت هذا الزعم المبني على وعودٍ (لم تتحقق) بتجديد الدعم المالي الإيراني بعد طول انقطاع، الأمر الذي يبيّن لكل ذي لبٍّ هشاشة هذا الخطاب المفعم بالمبالغة والتهويل وصناعة الأوهام، تماماً على نحو ما كان عليه هذا الخطاب الإنشائي دائماً، منذ أن أغرى الضعف العربي حكام طهران بمد أنظارهم نحو الشرق، وربما نحو الغرب أيضاً، تحت شعار تصدير الثورة الخمينية إلى بلاد العرب والمسلمين كافة.
من المفارقات الفارقة أن العراق وحده، من بين سائر المعنيين بهذه الأقوال الإيرانية المتوحشّة، من تصدّى للإهانة البالغة، وشدّد على استقلالية قراره، على الرغم من أنه أكثر البلدان انكشافاً للتدخل السياسي والأمني من جانب طهران، ناهيك عن تغلغل المليشيات وسيطرتها على البلد الذي وُصف يوما بأنه بوابة العرب الشرقية، فيما ران الصمت المريب على بلدانٍ وجهات أخرى، لا تزال مطالبة، اليوم وغداً، بتوضيح موقفها إزاء مثل هذا الاعتداء السافر على سيادتها، إذا كان في وسعها رد الإساءة بأقل من مثلها، ولو على سبيل رفع العتب والحرج عن نفسها، طالما أن الهيمنة الإيرانية على تلك البلدان الفاشلة هب أدنى بكثير من الهيمنة الإيرانية الواسعة على العراق.
ومع أن المواقف والتصريحات الإيرانية الفائضة بالعداء والاستفزاز للمشاعر العربية لا حصر لها على امتداد العقود الطويلة الماضية، فضلاً عما تزخر به هذه الترّهات من تحرّشٍ بأقطارٍ لا يوجد لطهران فيها مربط فرس أو عقال بعير، بما في ذلك دول شمال أفريقيا، التي لم تستثنها التخرّصات الإيرانية على أي حال، إلا أن المزاعم بالسيطرة على أربع عواصم بالأمس القريب، وتوسيع هذا الزعم إلى ستٍّ منها اليوم، كان أشد ما فاضت به ألسنة آيات الله من استصغارٍ للشأن العربي، وربما كان أكثر ما قوّض دفوعات القوميين واليساريين العرب، المدافعين عن وجهة النظر الإيرانية الرائجة حول أهمية التحالف مع هذه الدولة الإقليمية الوازنة ضد العربدة والتوسع الإسرائيلي.
وبنظرة تقويمية لهذه السياسات الإيرانية، المستمدة من حسٍّ بالعظمة والتفوق العرقي على 
المحيط العربي المثخن بالجراح الراعفة، نجد أنها مفتقرةٌ إلى الحوامل القادرة على المضي بها أشواطاً أخرى إلى الأمام، كونها تقوم على ساقين ضعيفتين، وغير مؤهلتين موضوعياً لرفع أوزان ثقيلة، من حجم إعادة إحياء مشروع الامبراطورية الفارسية، أولهما أن المقومات الذاتية للبلد الخاضع لعقوبات اقتصادية مديدة أضعف من مقدرة أصحاب هذا الحلم الواسع على التحليق به إلى آفاقٍ بعيدة، عجزت عن مثله دول استعمارية كبيرة، وذات موارد وفيرة، وثانيهما أن الشعارات التي بشرت بها الثورة الخمينية، ولقيت حينها صدىً طيباً في عموم العالم العربي، قد سقطت سقوطاً مدوياً لدى انخراط إيران في المقتلة السورية الرهيبة.
ومع الإقرار بأن إيران متغلغلة في أصقاع عربية كثيرة، عبر مليشياتها وأذرعها الأمنية، وذات حضور غير قليل في بعض دول شرق المتوسط، غير أن الجمهورية الإسلامية لم تعد كما كانت عليه قبل انكشاف زعمها إن ما عرف باسم الربيع العربي كان امتداداً للصحوة الإسلامية التي أطلقها آية الله العظمى في الربع الأخير من القرن الماضي، وذلك عندما وقفت إلى جانب النظام القاتل في سورية، وسفكت دماء المتظاهرين السلميين، مع قوات الأسد جنباً إلى جنب، تحت زعم محاربة الإرهاب والجماعات الإرهابية، الأمر الذي بدد كل ما كانت طهران قد راكمته من رصيد سابق، بما في ذلك سمعة حزب الله، وأدى إلى نفور أشد المؤيدين لخطابها الديماغوجي التهريجي القائل بإزالة إسرائيل عن الخريطة الشرق أوسطية.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي