ثلاثة بلطجيّة يُرهبون "الجنائيّة الدولية"

02 يوليو 2024
+ الخط -

لم يخطر في بال من أعياه الانتظار الطويل، واستبدّ به الترقّب المشوب بالشكّ، إزاء تلكُّؤ المُدّعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، كريم خان، في إصدار قراره الاتهامي في حقّ قادة حرب الإبادة على غزّة، أنّ الرجل كان تحت ضغط شديد الوطأة، ومحطّ ابتزاز وتخويف وتدخّلات شتّى، في قلب القلب منها كان يقف جهاز الموساد الإسرائيلي، صاحب الذراع الطويلة في صنع الترهيب وارتكاب عمليات الاغتيال البشعة، إذ اتّضح، غداة صدور طلب القبض على نتنياهو ووزير أمنه غالانت، أنّ معركةً صامتةً كانت تجري بتكتّم في لاهاي بين خان ورئيس جهاز الاستخبارات الخارجية في الدولة العبرية يوسي كوهين.
ولولا أنّ المُدّعي العام لمّح إلى هذه الضغوط والابتزازات بنفسه، في إعلانه مُذكّرة القبض تلك، ثمّ كشفه، في مقابلة مع صحيفة صنداي تايمز، عن بعض تفاصيل ما كان يجري خلف الأبواب من محاولاتٍ لثنيه عن إصدار المُذكّرة، لما صدّقنا كلّ ما ورد في التحقيق الاستقصائي المُفصّل، الذي نشرته "الغارديان"، من معلومات مذهلة عمّا تعرّض له كريم خان من بلطجة وترهيب شارك فيهما مسؤولون أوروبيون، قال له أحدهم بعد صدور المُذكّرة: "إنّ الغرب لم يُنشئ محكمة الجنايات الدولية لمحاكمة الأوروبيين وأصدقائهم، بل لمحاكمة القادة الأفارقة، والبلطجية من أمثال بوتين".
كانت عملية الترهيب هذه، بمثابة الفقرة الأولى من صفحة طويلة تعاقب ثلاثة بلطجية على تسويد بياضها، إذ فيما جرت هذه المداهمة لمقرّ "الجنائية الدولية" تحت جنح الظلام، تناوب بلطجيان آخران على الفعل ذاته (أحدهما كان بالغ الوقاحة) بصورة علنية لتقويض الحكم المزمع ضدّ قادة المذبحة، ومنع تسجيل مثل هذه السابقة القضائية التي تكسر القاعدة وتفتح الطريق أقوَمَ أمام العدالة الدولية، فبادر كبير البلطجية، الشريك في المذبحة الغزّية، إلى شنّ حملة تشهير بـ"الجنائية الدولية"، زاعماً أنّ مُذكّرتها ضدّ نتنياهو مشينة، وأنّها غير مخوّلة بذلك، ثم راح بعض المُشرّعين الأميركيين يطالبون بمعاقبة المحكمة قضاتها من دون هوادة.
لم يقل لنا شيخ مشايخ البلطجية، وهو يتلو بيانه من دون أن يَرفّ له جفن، لماذا كانت مُذكّرة القبض على بوتين قبل نحو عامين، صائبة ومُحقّة، وكانت تستحقّ الثناء والمباركة، فيما المُذكّرة ضدّ ربيبته المُدلّلة، التي لم تصدُر بعد عن قضاة المحكمة نفسها، شائنة يوجِب صدورها معاقبة المُدّعي العام والقضاة. كما لم يُعر مدّعو الحفاظ على القانون الدولي ومبادئه العليا أيّ انتباه إلى عقابيل الإمعان في استخدام المعايير المزدوجة على صورة الغرب، الذي كان قد أشبعنا كلاماً مُنمّقاً عن أخلاقياته الرفيعة.
وكي تستكمل مداهمات مقرّ محكمة الجنايات فصولها، وتحقيق ما فشلت في تحقيقه الهجمتان السابقتان، الإسرائيلية والأميركية، على التوالي، استأنف البلطجي الثالث، بخبث ودهاء، مُهمّة تجنيب نتنياهو عار تعميم مُذكّرة البوليس الدولي الحمراء والقبض عليه في الموانئ والمطارات، إذ تقدّمت بريطانيا، أمّ وعد بلفور، بطعن قانوني ضدّ اختصاص المحكمة الجنائية الدولية في النظر في الدعوى المرفوعة، لأنّ ولاية دولة فلسطين على أراضيها منقوصة، ولأنّ أهلية المحكمة، من ثمّ، معدومة، الأمر الذي أجّل صدور الحكم إلى أجل يؤمل ألّا يطول كثيراً.
لقد بدا البلطجي الثالث، وهو يدخل مُتسلّلاً قاعة المحكمة في لاهاي، أكثر أناقة وأشدّ كياسة من نظيرَيه السابقَين، لأنّه أبلغ منهما تمرّساً في مضمار اللؤم والمراوغة، فأصاب في الجولة الأولى قسطاً من النجاح الذي عزّ على رفيقيه الغليظَين، وبلغ بعض مراده بهزّ قوس العدالة الدولية، وإنْ مؤقّتاً، كما تمكّن أيضاً، ومع الأسف، من إيقاف عجلة العدالة، البطيئة أصلاً، عن الدوران في آخر لحظة، وفتح بالتالي باباً خلفياً قد يتّسع لاحقاً أمام سيل من التدخّلات والمساومات المُحتمَلة، وهو ما يُشكّل خيبة أمل طارئة لنحو 123 دولة عضواً في نظام روما.
لقد صمد كريم خان في وجه التخويف والخضوع، ورفض الابتزاز والترهيب، وسار في خطى المُدّعية العامة السابقة فاتو بن سودة، التي قاومت التهويل والترغيب معاً، وأصدرت، بعد أناة وتؤدة وصبر جميل، حُكماً مبرماً قضى بشمول ولاية المحكمة الجنائية الأراضي الفلسطينية المُحتلّة في القدس والضفّة الغربية وقطاع غزّة، وبتّت في هذه المسألة، وهو ما يدعو إلى تعزيز الثقة لدى المُعوّلين على العدالة الدولية في "الجنائية"، ومواصلة عقد الرهان على أنّ هذه المحكمة قادرة في نهاية مطاف قصير، على الدفاع عن نفسها بكفاءة، والتمسّك بقراراتها ببراعة، ومن ثمّ، إصدار مُذكّرة القبض على نتنياهو.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي