فازت هاريس أم عاد ترامب... سيّان
في يوم الثلاثاء الكبير هذا، إن لم نقل في هذا اليوم الانتخابي الفارق في مسرح السياسة الدولية، ليس لدى الذين لا صوت لهم ولا تأثير في صناديق الاقتراع الأميركية، مثلنا نحن، سوى اجترار التمنّيات القلبية المستحيلة، بسقوط الاثنين المتنافسين في مضمار السباق المحموم إلى البيت الأبيض، كامالا هاريس ودونالد ترامب معاً، والتضرّع إلى السماء بنجاح متنافسة ثالثة يهودية تقدّمية تطوّق عنقها بالكوفية. وبالتالي، ليس لنا جميعا في واقع الأمر غير الترقّب وانتظار الفرز، من دون عقد الرهانات، سواء على فرس هاريس المتوثّبة أو حصان ترامب الجامح.
لكنّ مثل هذا التعميم المُجِحف ليس صحيحاً بالضرورة، ولا ينطبق بالكامل على الناس كافّة، لا سيّما للمترقّبين على أحرّ من الجمر عودةَ صديقهم الأثير ترامب، أو للمعوّلين على سابقة نجاح أوّل سيدة أميركية ملوّنة في الوصول إلى رئاسة أكثر دولة أهمّيةً، ناهيك عن المتحسّبين في بعض العواصم والمنظّمات الأممية، التي ظلّت تضرب أخماساً بأسداس طوال الحملة الانتخابية، خشية عودة الرجل البرتقالي المتهوّر إلى سُدّة الدولة العظمى الوحيدة، خاصّة أن الذاكرة الغضّة عن ولاية ترامب السابقة تبعث في النفوس مخاوفَ محقّةً إزاء حدوث مزيد من الاندفاعات غير المتوقّعة من رئيسٍ معادٍ للديمقراطية.
وأحسب أن هناك قلّة قليلة من القادة في هذا العالم تودّ رؤية ترامب رئيساً في البيت الأبيض مرّة أخرى، يكاد بعضُهم يجاهر بتمنّياته هذه، مثل بنيامين نتنياهو وفلاديمير بوتين مثلاً، فيما بعضهم الآخر في إيران والصين وأوكرانيا يتحسّب بشدّة، ويبدي القلق سلفاً إزاء سائق البلدوزر الأميركي المندفع بلا كوابح. أمّا في بلادنا العربية، فهناك من يرغب في إشفاء غلّه بهزيمة غريمه جو بايدن وصحبه، إلّا أنه يتكتّم بصعوبة على أشواقه السرّية بودّه راعي الاتفاقات الإبراهيمية.
لكنّ السؤال هو، ماذا عنّا نحن في عموم العالم العربي المراهن دائماً على الحصان الخاسر؟ هل في هذا الفضاء المُستبَاح من لا يزال يعوّل على عودة عرّاب "صفقة القرن" المشؤومة إلى المكتب البيضاوي؟ وفي المقابل، هل بين ظهرانينا من يتوهّم أن فوز كامالا هاريس يمكن أن يعدّل سياسة أميركا الشرق أوسطية المنحازة، أو يُخفّف من درجة انخراط واشنطن بالباع والذراع في المذبحة، ناهيك عن شراكتها المُعلَنة على رؤوس الأشهاد، سواء في حرب الإبادة الجماعية ضدّ غزّة، أو في الحرب التدميرية الجارية ضدّ لبنان؟ وهل هناك بيننا من لا يرى بأمّ العين أن النتيجة بالنسبة إلينا سيّان، أو قل واحدة، عاد ترامب إلى عرينه، أم ربحت هاريس الجولة الانتخابية بشقّ الأنفس؟
ليس من الحكمة في شيء التقليل من أهمّية الفوارق الشخصية بين الرؤساء الأميركيين، أو تجاهل الخلفيات الثقافية والاجتماعية المتباينة بين القادة السياسيين المتعاقبين على سدّة الحكم في واشنطن، غير أن التجربة الطرية في الأذهان تقول لنا، بوضوح شديد، إنه كلّما انقشعت سحابةُ سيّد ظالمٍ عن سماء البيت الأبيض، وتنفّسنا من بعده الصعداء، حلّت محلّه غمامة سيّد أكثر تماهياً مع دولة الاحتلال، ولعلّ مثال جورج بوش (الابن)، قائد غزوتَين متتالتَين لأفغانستان والعراق، ومن بعده باراك أوباما، الذي أغدق على دولة الاحتلال أكثر من سابقيه كلّهم، خير دليل على صحّة هذا الاستنتاج غير المشكوك فيه.
وما إن انقضى عهد ترامب وانقشعت معه الغيوم السوداء، وحلّ محلّه بايدن، وسط بعض التفاؤل المجّاني، حتى تكرّر المشهد السابق بلا زيادة او نقصان، حتى لا نقول إن هذا الفخور بصهيونيّته كان أسوأ بالنسبة إلينا من سلفه المتيّم بحُبّ صهيون، لا سيّما في سنة العجوز الخرف الأخيرة، سنة حرب الإبادة والتجويع والتدمير والترويع.
وها نحن اليوم قداّم مشهد طبق الأصل، سبق أن رأيناه في عهود بوش وأوباما وترامب نفسه، وجو بايدن بالذات، نقف صمّاً عميّاً لا يفقهون أمام فصل آخر من التجربة نفسها بالتفاصيل كلّها، إذ يراهن بعض منّا على ترامب، رغم ما فاض به عهده من فجور، ومن تطابق غير محدود مع دولة الاحتلال والاستيطان، فيما يعوّل بعض آخر، باستحياء، على كامالا هاريس، نائبة الصهيوني الكبير، وشريكته في حرب الإبادة بلا تحفّظ أو وخزة ضمير، وكأنّ لدى بني قومنا ذاكرة السمك أو قلّة عقل العصافير.