يافا ولاهاي صفعتان في يوم واحد

23 يوليو 2024

ختم محكمة العدل الدولية على هاتف ,علم إسرائيل في صورة توضيحية في بروكسيل (20/5/2024 Getty)

+ الخط -

قد لا تفي مُفرَدةُ صفعة بكامل المعنى، وربّما لا تُشخّص هذه الكلمة بالغ المغزى، ولا تفضّ طيّبات هذا التزامن بين ضربتَين استراتيجيتَين تلقتّهما دولة الاحتلال في يوم واحد، الأولى وقعت فجر يوم الجمعة الفائتة، والثانية بعد ظُهرها، وهذه سابقة أخرى من سوابق حرب تُواصِلُ صُنع مفاجآتها، وتستمرّ في طرح أسئلتها، ولا تكفّ عن مراكمة التحوّلات والنتائج والحقائق، التي تترك آثارها بعيدةَ المدى في حاضر هذه المنطقة ومُستقبلها، وتعيد، في الوقت ذاته، تشكيل تحالفاتها وبناء توازناتها، وتخليق صورة مغايرة بالضرورة الموضوعية لما كانت عليه قبل ملحمة "طوفان الأقصى".
دوّت الصفعة الأولى في يافا، المدينة الفلسطينية التاريخية الأكثر أهمّية بعد حاضرة القدس، حين تسمّت باسمها طائرة مسيّرة قدمت من اليمن، ثم ضربت في تل أبيب، فكان وقعها أبعدَ من مُجرّد هجمة جوّية على تلّ أبيب، وأثقل من وزنها الحربي المحدود، حيث دشّنت يافا بداية مرحلة أخرى مُهمّة في صراع مديد، وفتحت مضاعفاتها اللاحقة أبواب زمن مفتوح على المجهول، بما في ذلك حرب يأجوج ومأجوج، وربما أُدخلت إلى القاموس السياسي تعبير "الصراع اليمني الإسرائيلي" مفهوماً جديداً.
صحيح أنّه ليست هذه هي المرّة الأولى التي تُقصف فيها تلّ أبيب، فقد ضربها النظام العراقي السابق (ما بين 17 يناير/ كانون الثاني و23 فبراير/ شباط 1991) قبل ثلاثة عقود ونيّف من الزمن العربي الكالح بكلّ المعايير، وصحيح أنّ المقاومة الفلسطينية ضربت هذه المدينة نيويوركية الطابع مرّات عدّة، سيّما بعد "طوفان الأقصى"، غير أنّ هذه الضربة اليمنية المثيرة للانطباعات والتوقّعات، المُحمّلة بالرسائل النارية أتت مختلفة عن ما سبقها كلّه من الهجمات، خاصّة أنّها ترافقت مع حرب في الشمال، نتائجها الواعدة في طور المَخاض، فيما حدثت الضربة العراقية آنذاك عندما كانت شمس العرب في مآل الغروب.
وفيما كان مجانين الدولة المارقة تحت وطأة صدمة الفجر بعد، غير مُصدّقين ما حدث، ولا قادرين على استيعاب ما فاضت به الرسالة اليمنية الصاعقة من معانٍ بليغة ومُؤشّرات لا حصر لها، جاءت الصفعة الثانية في اليوم نفسه، من لاهاي، عاصمة القضاء الدولي بامتياز، حيث قالت محكمة العدل الدولية كلمتها الباتّةَ في أمر احتلالٍ لا شرعيّة له، يمارس الأبارتهايد، وأبشع صنوف الانتهاكات، وبالتالي عليه أن يرحل من دون تأخير، وأن يُعيد الحقوق المشروعة لأصحابها الشرعيين، بما في ذلك حقّ تقرير المصير، كما حدّدت المحكمة، للمرّة الأولى، حدود دولة فلسطين، ومنحتها ذخيرةً قانونيةً هائلةً لمواصلة الاشتباك.
ندرك سلفاً أنّ دولة الاحتلال والاستيطان لن تنصاع إلى رأي محكمة العدل الدولية، ولن تحفل كثيراً بما يقوله "الأغيار"، فهي ترى نفسها دولةً فوق القانون الدولي، وأنّها كيان لا يقبل المساءلة مهما قارف من فظائع، بما في ذلك جريمة الإبادة الجماعية الجارية في وضح النهار، إلّا أنّنا ندرك، في المقابل، أنّ كلب موشيه دايان المسعور جدّاً لم يعد يُخيف، وأنّ البيئة الدولية تغيّرت عما كانت عليه في الأمس القريب، وأنّ التحوّلات الجيوسياسية تجري الآن في العكس ممّا كان عليه الحال في عهد القطب الأميركي، الذي دخلت شمسه في طول الغروب.
إذ في غضون أقلّ من عام، إنثالت المزاعم الصهيونية كلّها عن دولة الرفاه والأمان، عن واحة الديمقراطية المُدَّعاة، عن الجيش الذي لا يقهر، والرّدع الذي لا يُشقّ له غبار، وتجلّت للعيان صورة دولة بتراء في الجنوب والشمال، تمارس القوّة العمياء، الجنون المفرط والاستهانة بالرأي العام، وتواصل سياسة الإنكار والعجرفة والإجرام، الأمر الذي عزلها أكثر من ذي قبل، وأنزلها إلى الدرك الأسفل، إلى سيرورة الانكشاف والتراجع والخسارات في كلّ صعيد، إلى مسار نزف الدماء والمال والثقة بالنفس، تماماً على نحو ما تتلو بيانه وقائع حربٍ فقدت ذريعتها، وآلت لعبةَ تدمير للمنازل وقتل للأطفال وللنساء.
مع توالي مثل هذه الصفعات على الوجه في لاهاي وجنيف وبروكسل ونيويورك، وتتابع هذه الضربات على مُؤخِّرة الرأس، وفي موضع القلب والأطراف، وتعاظم تلك الانكفاءات، التي افتتحها "طوفان الأقصى" ذات سبت أسود، لن يمضي طويل وقت حتّى تصحو دولة المجانين من سبات سبتها المديد على واقع جديد، تغيّرت فيه اللعبة، تبدّلت فيه موازين القوّة وانتقل فيه المقاومون من خندق الدفاع الثابت إلى خطّ الهجوم المُتصاعِد يوماً بعد يوم، وما خفي أعظم بكلّ تأكيد.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي