12 نوفمبر 2024
الثورة التونسية وطبائع الاستبداد
مع الملامح الأولى لانتصار الحراك الشعبي التونسي، وفرار الطاغية بن علي، بدأ الجدل في الأوساط السياسية التونسية بشأن طبيعة ما جرى. بدا الحدث أكبر من أن يستوعبه بعضهم، أو يستجيب للقولبة ضمن النظريات المعتادة عن معنى الثورة وطبيعتها، ومن يتولى قيادتها، وما الذي ينبغي أن تكون عليه، حتى يليق بها حمل اسم الثورة؟ فالذين انشغلوا كثيرا بالكتابات النظرية والجدل الفكروي العقيم لم يكونوا الصانعين الفعليين للحدث، ووجدوا أنفسهم على هامش الحراك الجماهيري، على الرغم من استفادتهم اللاحقة من مخرجات الثورة التونسية.
فبين وصفها بالانتفاضة، وهو تعبير مخفف لما حصل، بالنظر إلى غياب الحزب الثوري القائد، وصولا إلى نعتها بالمؤامرة التي حاكتها أيادي الإمبريالية التي تريد تغيير المشهد في المنطقة، في ظل نظرية الفوضى الخلاقة، ظل سياسيو الثورات النظرية يلوكون مصطلحاتهم الكبيرة ومقارناتهم السمجة. فالثورة ينبغي أن تكون على الطريقة البلشفية، أو الطريقة الإيرانية، أو هي في أدناها على الشاكلة الفرنسية، وخارج هذه النماذج المقدسة لا يمكن الحديث عن ثورة. وما يثير السخرية أن كثيرين من هؤلاء ممن تربّوا على نعت انقلابات عسكرية مشرقية، بوصفها ثورات عظيمة لا نظير لها، وقفوا أمام الحدث التونسي معطلي الإدراك والأذهان، فهي لا تحمل أيا من السمات الانقلابية العربية، ولم ترافقها المشانق والخطابات الفضفاضة الصادحة، ولا الدعايات الصارخة على طريقة أحمد سعيد. حدث بدأ بتمرّد صغير من شاب معطل فقير، أحرق نفسه احتجاجا على انتهاك لحقوق اجتماعية، وضدا لتغول الدولة البوليسية، من دون شعارات ثورية، مهما كانت صبغتها، وشوارع ضجت بحراك شبابي عارم، يدعو إلى محاربة الفساد والحق في التشغيل وحياة كريمة في حدها الأدنى.
والمفارقة العجيبة أن كل هؤلاء الذين جلدوا الثورة التونسية، تسمية واصطلاحا، ونعتوا حراك
الجمهور بالمؤامرة أو الانتفاضة، تمتعوا بأفياء التحول السياسي الكبير، ليجد بعضهم نفسه يتمتع بخيرات الحكم من الوزارة إلى البرلمان، واستعاد بعضهم الآخر حقوقا لم يكن يحلم بها طوال هيمنة نظام الحزب الواحد حقوقا في التعبير، وفي النقد والمراجعة، من دون حسيب أو رقيب.
وعلى الرغم من هذه التحولات السياسية الكبرى التي عرفتها تونس، وهو أمر لا تخطئه العين، ولا ينكره المراقب الموضوعي، فقد ظلت طبائع الاستبداد تفعل فعلها في نفوس بعضهم. فلم تكن فكرة الثورة النظرية التي يحملونها سوى تصور بشأن أمثل الطرق للاستئثار بالدولة، لصالح طرف إيديولوجي محدّد، يقوم بعدها بتأميم الشأن العام لمصلحته، وتصفية كل خصومه تحت ضجيج إعلامي، وبقرارات دموية حادة. فبعض القوى السياسية التي عانت المنع، زمن استبداد بن علي، باركت الانقلاب المصري، واعتبرته حراكا شعبيا، أعاد الثورة المصرية إلى خطها الطبيعي، فيما تخندقت أطراف أخرى مع النظام السوري، واعتبرت كل ما يجري ضده مؤامرةً. وفي الوقت الذي تستمتع هي فيه بشتم رئيس الجمهورية، وانتقاد الحكومة والتظاهر في الشوارع، استكثرت على السوريين مجرد المطالبة بانتخاباتٍ لا يفوز فيها الحاكم الوريث بنسبة خيالية تقارب المائة بالمائة. ووجد آخرون متسعا لنسج تحالفات مع أنظمة متخلفة معادية لكل التحولات السياسية في المنطقة، ولتجد في نفسها الجرأة للدفاع عن قراراتٍ مؤذية للشعور العام، من قبيل منع النساء التونسيات من السفر.
الأغرب من هذا كله، ظهور أنماط من التقاطعات في المواقف، بشكل غير متوقع، بين قوى تحتكر التفسير الثوري والقوى المناصرة للنظام البائد في تونس، فكلاهما ينتقد الثورات العربية، وكلاهما ينعتها بالمؤامرة، وكلاهما يرفض مخرجات الوضع الديمقراطي في تونس، وينعته بالأزمة. ولا يمكن للعاقل أن يجد تفسيرا لمثل هذه التقاطعات، إلا حالة من الاعتقاد الجذري بأن هذا الشعب، وكل الشعوب العربية، لا تستحق الحرية، وإنما ينبغي أن تظل محكومةً بأنظمتها السلطانية المنغلقة، مهما حملت من أسماء جمهورية زائفة، أو رفعت من شعارات مقاومة كاذبة.
يظل الحدث التونسي فعلا ثوريا خارج نطاق التوصيفات المعتادة، ويرفض الانصياع للقولبة
الجامدة، أو النمذجة القسرية، فمسار الفعل الثوري الذي بدأه الجيل الجديد، وفاجأ به العالم بعيدا عن إيديولوجيات الهزيمة وتبرير الفشل، هو الذي يواصل اليوم الرقابة على المشهد السياسي، وقادر على قلب الأوضاع على الجميع، في اللحظة التي يريد، وربما هذا ما يفسر عزوف الشباب عن الأحزاب المؤدلجة، بما فيه الشباب الطالبي، بوجود جامعات تونسية تضم أكثر من 350 ألف طالب. وإذا لم يدرك محترفو السياسة وأبواق الإيديولوجيا المهترئة طبيعة التغير الذهني والوعي الناشئ لدى الجيل الجديد، فسيظلون مجرد ظواهر صوتية وفقاعات إعلامية، ستغيب قريبا عن المشهد، بفعل ما يعتمل في أحشاء المجتمع التونسي من تحولاتٍ تجري أمام أنوفهم، من دون أن يدركوا معناها، أو يحسنوا التعامل معها، فالمجتمعات لا تتحرك وفق برامج مسبقة، أو تنظيرات فكرية معتلة، وإنما هي تستجيب للحاجات التي يفرضها الوضع التاريخي، وتتحرك ضمن الخيارات التي تقوم هي ذاتها بصنعها، ومثلما انفجر الجمهور ذات 17 ديسمبر ليطيح نظام الحزب الواحد، فإن هذا الجيل، وكل الذين بلغوا حق الاقتراع في ظل الثورة، في وسعهم صنع الحدث مرة أخرى، ولكن هذه المرة ليس في الشوارع، وإنما من خلال صناديق الاقتراع.
فبين وصفها بالانتفاضة، وهو تعبير مخفف لما حصل، بالنظر إلى غياب الحزب الثوري القائد، وصولا إلى نعتها بالمؤامرة التي حاكتها أيادي الإمبريالية التي تريد تغيير المشهد في المنطقة، في ظل نظرية الفوضى الخلاقة، ظل سياسيو الثورات النظرية يلوكون مصطلحاتهم الكبيرة ومقارناتهم السمجة. فالثورة ينبغي أن تكون على الطريقة البلشفية، أو الطريقة الإيرانية، أو هي في أدناها على الشاكلة الفرنسية، وخارج هذه النماذج المقدسة لا يمكن الحديث عن ثورة. وما يثير السخرية أن كثيرين من هؤلاء ممن تربّوا على نعت انقلابات عسكرية مشرقية، بوصفها ثورات عظيمة لا نظير لها، وقفوا أمام الحدث التونسي معطلي الإدراك والأذهان، فهي لا تحمل أيا من السمات الانقلابية العربية، ولم ترافقها المشانق والخطابات الفضفاضة الصادحة، ولا الدعايات الصارخة على طريقة أحمد سعيد. حدث بدأ بتمرّد صغير من شاب معطل فقير، أحرق نفسه احتجاجا على انتهاك لحقوق اجتماعية، وضدا لتغول الدولة البوليسية، من دون شعارات ثورية، مهما كانت صبغتها، وشوارع ضجت بحراك شبابي عارم، يدعو إلى محاربة الفساد والحق في التشغيل وحياة كريمة في حدها الأدنى.
والمفارقة العجيبة أن كل هؤلاء الذين جلدوا الثورة التونسية، تسمية واصطلاحا، ونعتوا حراك
وعلى الرغم من هذه التحولات السياسية الكبرى التي عرفتها تونس، وهو أمر لا تخطئه العين، ولا ينكره المراقب الموضوعي، فقد ظلت طبائع الاستبداد تفعل فعلها في نفوس بعضهم. فلم تكن فكرة الثورة النظرية التي يحملونها سوى تصور بشأن أمثل الطرق للاستئثار بالدولة، لصالح طرف إيديولوجي محدّد، يقوم بعدها بتأميم الشأن العام لمصلحته، وتصفية كل خصومه تحت ضجيج إعلامي، وبقرارات دموية حادة. فبعض القوى السياسية التي عانت المنع، زمن استبداد بن علي، باركت الانقلاب المصري، واعتبرته حراكا شعبيا، أعاد الثورة المصرية إلى خطها الطبيعي، فيما تخندقت أطراف أخرى مع النظام السوري، واعتبرت كل ما يجري ضده مؤامرةً. وفي الوقت الذي تستمتع هي فيه بشتم رئيس الجمهورية، وانتقاد الحكومة والتظاهر في الشوارع، استكثرت على السوريين مجرد المطالبة بانتخاباتٍ لا يفوز فيها الحاكم الوريث بنسبة خيالية تقارب المائة بالمائة. ووجد آخرون متسعا لنسج تحالفات مع أنظمة متخلفة معادية لكل التحولات السياسية في المنطقة، ولتجد في نفسها الجرأة للدفاع عن قراراتٍ مؤذية للشعور العام، من قبيل منع النساء التونسيات من السفر.
الأغرب من هذا كله، ظهور أنماط من التقاطعات في المواقف، بشكل غير متوقع، بين قوى تحتكر التفسير الثوري والقوى المناصرة للنظام البائد في تونس، فكلاهما ينتقد الثورات العربية، وكلاهما ينعتها بالمؤامرة، وكلاهما يرفض مخرجات الوضع الديمقراطي في تونس، وينعته بالأزمة. ولا يمكن للعاقل أن يجد تفسيرا لمثل هذه التقاطعات، إلا حالة من الاعتقاد الجذري بأن هذا الشعب، وكل الشعوب العربية، لا تستحق الحرية، وإنما ينبغي أن تظل محكومةً بأنظمتها السلطانية المنغلقة، مهما حملت من أسماء جمهورية زائفة، أو رفعت من شعارات مقاومة كاذبة.
يظل الحدث التونسي فعلا ثوريا خارج نطاق التوصيفات المعتادة، ويرفض الانصياع للقولبة