المغرب.. سؤال "النموذج الاجتماعي"

07 سبتمبر 2017
+ الخط -
سعى المغرب، منذ تولي محمد السادس، عرش المملكة إلى صناعة نموذج مغربي متفرد عربياً وإقليمياً، في الوسع تسويقه دولة نموذجية ناجحة في العالم الثالث، على الصعيدين العربي والإفريقي. وكان المجال الاقتصادي عصب النموذج المأمول، لما يتيحه من هامش كبير للمناورة لدى أصحاب هذا الخيار، وإمكاناتٍ للمراوغة في سبيل تحقيق هذا الحلم. وقد بلغ الأمر درجة أضحى معها الشأن السياسي؛ بما يفترض من مشروع ورؤية وبرنامج... مجرد تابع للتوجه الاقتصادي المهيمن على البلاد. أكثر من ذلك، تم استدعاء رجال الأعمال والتكنوقراط للاشتغال في الحقل السياسي، مع أول تجربة حكومة في العهد الجديد (حكومة إدريس جطو 2002)، ثم حكومة عباس الفاسي سنة 2007 التي كانت أفضل تعبير عن حالة الإفلاس السياسي في المغرب جراء هذا التوجه. 

أدرك صناع القرار في المغرب مركزية استحضار الجانب السياسي قصد ضمان التسويق الأمثل لأي نموذج اقتصادي، تتوفق المملكة في تشييده، فاهتدت إلى أسلوبٍ مخزني عتيق، لطالما وظفته الدولة في عهد الراحل الحسن الثاني؛ قوامه تأسيس حزبٍ يمثل السلطة في المشهد السياسي في مقابل أن تحتضنه وترعاه بكل وسائلها.
وقد تم ذلك فعلياً، وبدأ التنزيل العملي لهذه الخطة في الانتخابات المحلية سنة 2009، لكن مجيء رياح الربيع العربي، بعد سنتين تحديداً من الانطلاقة، أوقف التنفيذ وخلط أوراق الدوائر العليا في البلاد. ما فرض عليها قلب استراتيجية الاشتغال رأساً على عقب، فتراجعت العناية بالخطط والبرامج الاقتصادية، لتُعطى الأولوية لصالح القضايا السياسية، بدءاً من خطاب الملك محمد السادس في 9 مارس/ آذار 2011 الذي سيبقى خطاباً مشهوداً في تاريخ المغرب الحديث. وبذلك ترك البحث عن "النموذج الاقتصادي" مكانه لصالح "النموذج السياسي"، بشعار برّاق وملهم "الإصلاح في ظل الاستقرار"؛ الذي أضحى أعزّ ما يُطلب إقليمياً ودولياً، بعدما عصف المدّ الثوري الشعبي ببعض رموز الاستبداد في الإقليم العربي.
لكن، ما أن تكشفت الصورة، وبدأت ملامح الردة الثورية والنكوص نحو الاستبداد في بلدان 
الربيع العربي، حتى شرعت الدولة العميقة في استعادة ما تنازلت عنه بالجملة؛ اتقاء هدير الربيع المغربي، بالتقسيط وعبر مراحل، معتمدةً على أذرعها في الإعلام، ولوبياتها في الاقتصاد، ووكلائها في السياسة، مستخدمةً لذلك أساليب شتى؛ تتراوح بين الرفض المباشر لبعض الخطط وعرقلة تنفيذ التي تمت الموافقة عليها. وفي أسوأ الحالات، تكتفي بتأخير التنفيذ، بغية إفراغ هذا الخيار الصعب، وليس المستحيل، من أي مضمون لدى المواطن العادي. وبالتالي، التسريع في وتيرة الرفض الشعبي له، بسبب بطء نتائجه وآثاره العملية.
قرّر أنصار السلطوية بعدما راودهم الشك في نجاح هذا التوجه، تكرار تجربة حكومة 2007؛ التي كانت أقرب إلى تجمع لرجال الأعمال وذوي الخبرة التقنية، بغطاء سياسي، مثله الوزير الأول آنذاك الاستقلالي عباس الفاسي، مع الحكومة الحالية لسعد الدين العثماني التي وجدت نفسها شبه عاجزةٍ أمام غلبة وكلاء الدولة العميقة، بتلويناتٍ حزبيةٍ مختلفة داخل التركيبة الحكومية. وهكذا وجد المغاربة أنفسهم معها أمام وضعية أقرب ما تكون إلى الشلل المؤسساتي في محطات وأحداث عديدة، لعل أبرزها حراك الريف، الذي يأتي بعد 18 عاماً من حكم الملك محمد السادس الذي عرف تجريب كل الوصفات التي لم تحقق المراد، فقد ظلت متواضعة؛ كما جاء في خطاب العرش "تواضع الإنجازات في بعض المجالات الاجتماعية، حتى أصبح من المخجل أن يقال إنها تقع في مغرب اليوم". ويعد أكبر سؤال يوجه للدولة بعد قرابة عقدين عن "النموذج الاجتماعي" الذي اختارته للمغرب والمغاربة.
واضحٌ أن فترة حكم محمد السادس تراوحت ما بين الانتصار للنموذج الاقتصادي تارة والنموذج السياسي تارة أخرى. مع الإشارة إلى أن المقاربة الاجتماعية حاضرة في النموذجين، مع اختلاف زاوية النظر إليها. فالنموذج الاقتصادي الذي يقوم على التنمية وسياسات الوِرش والمخططات الاستراتيجية يضمن مشاريع اجتماعية، ترتكز على الإحسان المؤسساتي والترقيع الاجتماعي، قصد محاربة الفقر والقضاء على التهميش والإقصاء الاجتماعي للفئات الاجتماعية الهشّة (المبادرة الوطنية للتنمية البشرية 2005 مثلاً).
لقد أبان هذا الخيار عن عجزٍ عن مواكبة التحديات الاجتماعية المتزايدة التي تواجه المغرب (تقرير البنك الدولي حول مغرب 2040)، بشهادة المؤسسة المركزية للدولة في خطاب العرش أخيراً. شهادة تعزّزها معطيات الواقع، حيث معدلات البطالة في ارتفاع، ودوائر الفقر والهشاشة في اتساع، ونسب الإجرام والتطرف في صفوف الشباب في تزايد، ووتيرة الاحتجاجات الاجتماعية تتصاعد... ما يعني أن أثر هذه المقاربة، بعد كل هذه المدة، بقي محدوداً جداً.
في المقابل يسعى النموذج السياسي إلى فرض إصلاحاتٍ جذرية وهيكلية، تقوم على مراجعة 
مكامن الخلل في المنظومة بشكل شمولي، بغرض وضع قواعد جديدة ومنصفة تسهل عمليات التشحيم في السلم الاجتماعي، وتخوّل للجميع على قدم المساواة آليات الاندماج والترقي الاجتماعي بطرق سلسة ومشروعة. أي معالجة المشكل من جذوره، لا الاكتفاء بتمظهراته التي تزول هنا لتظهر هناك في صور وأشكال جديدة.
مقاربة ستدفع الطبقة الفقيرة كلفتها على المدى القصير، فيما تتولى الطبقات الميسورة ذلك بعد استعادة التوازنات الكبرى للدولة. وضع ليس في مصلحتها، ما عجّل بتحرك هذه الأخيرة للحيلولة دون بلوغه، لما يشكله من تهديدٍ لشبكات علاقاتها ومصالحها الخاصة. لذا صمد أرباب المصالح ستة أشهر من العرقلة السياسية (البلوكاج) لتشكيل الحكومة، مخافة تحقيق ذلك. فمن زاوية براغماتية صرفة، تبقى تكلفة النهج الترقيعي أخف وطأةً من إعادة النظر في المنظومة برمتها.
خيار على صناع القرار في الدولة أن يكونوا على أهبة الاستعداد لتحمل تبعاته، فالقتل الرحيم للسياسة الذي اختاره هؤلاء من بين خيارات أخرى قلما يجود بها التاريخ. وإحدى هذه التبعات التعجيل بانتقال المساءلة، في ظرف قياسي، إلى الحقل الاجتماعي، وهو حقل حسّاس لا تملك فيه السلطة هامشاً كبيراً للمناورة، إذ يتعلق بمطالب حياتية ملموسة ومشروعة، ولا يمكن لأحد أن يشكّك في دوافعها، خصوصاً عندما تتم هذه المساءلة بطرق سلمية، وفي الفضاء العام.
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري